أسامة سعد

هل نعول على انهيار الكيان الداخلي كما عولنا على نبوءة عام 2022؟

التناقض الحاد الذي يسيطر على مناخ السياسة الصهيونية والمتمثل في العلمانية المتطرفة والدينية الفاشية أخذ أبعادًا ربما تكون هي الأكثر اتساعًا في تاريخ الاحتلال حتى من تلك الأبعاد التي ظهرت عندما سيطر حزب الليكود -وهو تجمع عدد من الأحزاب اليمينية في ذلك الوقت- على مقاليد الحكم الذي كان بيد اليسار الصهيوني منذ قيام دولتهم، ذلك الحدث ورغم أنه يعد ثورة في تاريخ السياسة الصهيونية، فإنه حسب وجهة نظري لم يصل إلى مستوى الحدث الذي يجري اليوم في دولة الاحتلال، ذلك أن كل ما سبق لم يعْدُ أن يكون اختلافًا في البرامج السياسية وبعضًا من البرامج الاجتماعية دون أن يؤثر في استقرار نظام الحكم الذي حرص مؤسسو الكيان على أن يكون نظامًا مستقرًا قائمًا على احترام سيادة القانون واستقلال القضاء والتناوب السلمي على السلطة وحرية تشكيل الأحزاب، وذلك لاستيعاب كل التناقضات التي تشكل منها الكيان الصهيوني من شرقيين وغربيين وتقدميين وعلمانيين وعرقيات مختلفة بما يشمل العادات والتقاليد وتعدد الطوائف اليهودية واختلاف نظرتها للدين ومكانته في الدولة، لذلك كانت الديمقراطية هي الملاذ الآمن الذي يضمن للكيان الاستقرار والاستمرار إلى أطول مدة ممكنة، هذه التقاليد والمبادئ هي التي أصبحت على المحك في الآونة الأخيرة، وهذا ما أفزع نخبة الكيان الذين يفهمون جيدًا أن الأمر ليس فقط فوز شريحة معنية في الانتخابات، ولكنها ضرب للأسس "المتينة" التي قامت عليها دولتهم، وهذا ما دفعهم إلى التظاهر بعشرات الآلاف احتجاجًا على ما قامت به الحكومة الجديدة من إجراءات تهز تلك الأسس والأركان.

وعلى الرغم من ذلك أجد أنه من المبالغة البناء على أن ما يحدث في (إسرائيل) اليوم هو عملية تآكل من الداخل بما ينذر بانهيار هذا الكيان وزواله، بل إن بعض المحللين ذهب بعيدًا في هذا السياق عادًّا أننا على أبواب حرب أهلية صهيونية.

أما أنا فأزعم أن ما يحدث هو عملية مخاض لتَوَلُّدْ جديد للكيان الصهيوني تكيفًا مع الظروف المحيطة التي أصبحت مختلفة تمامًا عن الظروف التي نشأ فيها والتي أدت إلى صياغة منظومته بالشكل الذي صيغت فيه، وقصدي من ذلك أن الظروف المواتية جدًا التي صاحبت نشوء الكيان من ضعف عربي شديد وسطوة غربية استعمارية طاغية جعلت من الكيان قوة متجبرة ضاربة مسيطرة بما ينعكس بالضرورة استقرارًا سياسيًا واقتصاديًا داخليًا على هذا الكيان، وحينما اختلفت هذه الظروف بتراجع مكانة الكيان عسكريًا والضعف الواضح الذي بدا عليه منذ هزيمته عام 2000، وفشله منذ ذلك الوقت في حماية أمنه، وفشله في تحقيق أي انتصار عسكري حاسم، ناهيك بتلاشي نظريته التوسعية وحلول نظرية الانكفاء والجدران عوضًا عنها، أدى كل ذلك إلى الشعور الحاد بخطر الزوال الوجودي، وهو ما أسفر عن انزياح المجتمع الصهيوني نحو اليمينية الدينية التي يجد فيها ما يمكن أن يكون بعثًا جديدًا للفكرة الصهيونية.

هذه التفاعلات السياسية والاجتماعية التي تعتري الكيان الصهيوني نجد تجلياتها في الواقع الجديد الذي أراه تحورًا يشبه التطور الفيروسي تكيفًا مع الظروف المحيطة، بما يجعله أكثر صمودًا أمام المضادات التي تحاصره، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ونحن على أعتاب انتهاء المئوية الأولى لانتهاء الحرب الكونية الثانية لم تعد النظرة الغربية تجاه وجود (إسرائيل) ودورها في المنطقة هي تلك النظرة نفسها التي واكبت إنشاءها لتكون نقطة توتر دائمة تحول دون استقرار المنطقة أو تطورها، خاصة في ظل وجود دول عربية كانت في ذلك الوقت تدور في فلك المعسكر الشرقي المناوئ للولايات المتحدة والغرب، لذلك فإن اختلاف الواقع الجيوسياسي في المنطقة غَيَّر النظرة الغربية لوجود (إسرائيل) في المنطقة لتتحول من بؤرة توتر إلى ضرورة أن تكون جزءًا طبيعيًّا من المنطقة وفقًا لنظرية الشرق الأوسط الجديد، وعليه ضرورة تحول التوتر إلى استقرار وهدوء، وما يصاحب ذلك من تشجيع الكيان دون الضغط عليه للذهاب نحو علاقات تطبيعية مع دول الجوار؛ الأمر الذي قد يراه دعاة التطبيع مقدمة لذوبان (إسرائيل) في المنطقة والتعامل معها بصفتها دولة متعددة الأعراف والطوائف كلبنان مثلًا، وتجاوز القضية الفلسطينية من خلال هذا التوجه، وهذا ما يستشعره قادة الصهيونية الدينية الذين يحاولون بدورهم التصدي لهذه النظرية من خلال بعث الروح الصهيونية اليهودية في المجتمع اليهودي من خلال الأحزاب التي تشكل الائتلاف الحاكم مثل العظمة اليهودية والصهيونية الدينية "حزب شاس"، تلك الأحزاب التي تدعو إلى تعميق الهوية الدينية والعودة للأصول، وهذا بحد ذاته يؤكد الخوف من الذوبان والاندثار.

أمام هذا التحدي الصهيوني الجديد لا أظن أنه من المفيد التعويل على التناقض الداخلي الصهيوني، لأنه لن يؤدي حسب وجهة نظري إلى زعزعة وجود الكيان بل أراه عملية لتكثيف الكتلة اليهودية الصهيونية وفقًا لقوانين الفيزياء أمام محاولات تخفيفها وتنضيبها بما يؤدي إلى انقراضها وزوالها، ولذلك فإن الفلسطينيين مطالبون أمام هذا التحدي العمل سريعًا وللمرة الألف على استعادة الوحدة الداخلية ومن ثم الركون إلى العمق العربي والإسلامي وإعادة التحشيد للقضية الفلسطينية التي عانت مؤخرًا من هشاشة الكتلة ومحاولات إنضابها، وذلك لمواجهة تلك الكتلة الصهيونية المصمتة التي يحاولون ضرب الشعب الفلسطيني بها، وتلك مسؤولية القيادة الفلسطينية التاريخية التي يجب ألا تعول كثيرًا على أوهام الاقتتال الصهيوني الداخلي الذي لا أظنه يحدث كما لم تحدث نبوءة 2022.

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد

صيغة البريد الإلكتروني خاطئة