تجاوزت الاحتجاجات الاسرائيلية الأخيرة على التعديلات القضائية الجارية من حالة رفض لها، إلى إعلان عملي لاستهداف (الدولة) برمّتها، إذ تحولت هذه المظاهرات إلى حالة من التمرّد، وبات الهجوم الذي يشنه التيار العلماني الليبرالي في دولة الاحتلال فرصة لإحداث شلل في صفوفها لم تشهده منذ عقود طويلة، ويبدو أن اليمينيين الفاشيين الذين تذوقوا طعم السلطة لأول مرة في حياتهم لا ينوون الاستسلام للمحتجين، مهما كلف الثمن.
لا يتردد المحتجون الإسرائيليون، أو للدقة نسبة لا بأس بها منهم، في توصيف ما هم فيه من أزمة سياسية دستورية مستفحلة، بأنهم يشعرون أنهم تحت حكم أجنبي قريب من وصفة "الاحتلال"، صحيح أن هذا جواب مبالغ فيه ومتطرف، لكنه ربما لا ينفصل عن الواقع الإسرائيلي المأزوم، وكأن هؤلاء المعارضين لوجود هذه الحكومة الفاشية باتوا يضعون أنفسهم في صفوف الفلسطينيين، مع أن ما يواجهونه من صلف وتعسف وقمع لا يمكن أن يتصوره الإسرائيليون، حتى هؤلاء المعارضون الذين مارس بعضهم بعض أشكال هذا القمع حين خدموا في صفوف جيش الاحتلال في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
في الوقت ذاته، تبدو الأسئلة الإسرائيلية مشروعة عن سبب تحول هذه المظاهرات التي دخلت أسبوعها الحادي والثلاثين، من احتجاجات لطبقة وسطى إلى حركة ضخمة من مئات آلاف الإسرائيليين، الذين يتحدّون شرعية حكومة اليمين؛ بل تحول إلى احتجاج على (الدولة) ذاتها، يُعد إلى حدّ كبير صراعًا للسيطرة على مراكز القوة بين مختلف أركان الساحة السياسية والحزبية في دولة الاحتلال.
أكثر من ذلك، فإن التخوف الذي بات يسود في أروقة ما يمكن تسميته "الحرس القديم" في دولة الاحتلال أن هذا الاحتجاج لم يعد موجهًا فقط ضد الانقلاب القانوني، أو حتى ضد الحكومة فقط، بل ضد الدولة نفسها، على اعتبار أن ما حصل في الأسابيع الأخيرة تجاوز الاحتجاجات الحزبية المتفهّمة، إلى كونها نضالًا ضد نظام "أجنبي"، مع دعوات مفتوحة للاضطرابات المدنية، وآلاف الجنود الذين يعلنون رفضهم الانخراط في الخدمة العسكرية، أو يتوقفون عن التطوع في صفوف الجيش.
ليس هذا فحسب، بل إن استعداد عشرات آلاف المتظاهرين لإغلاق الطرق، والوقوف أمام الشرطة، وتلقي الضرب والاعتقال، مؤشرات حقيقية على أن الأمر يتجاوز رفضًا لتعديل قانوني هنا وتغيير هناك، ويكفي النظر لمن قادوا هذه التظاهرات، خاصة كبار المسؤولين السابقين في منظومة الأمن والقضاء، والتكنولوجيا العالية، والأوساط الأكاديمية والاقتصاد، فضلًا عن الطيارين، وخبراء الإنترنت، ومقاتلي الوحدات الخاصة.