في كل يوم تسطر مدن ومخيمات الضفة الغربية المحتلة أعظم الملاحم والبطولات بمقاومتها الباسلة للاحتلال، والحاضنة الشعبية للمقاومة اللتان تعملان يداً واحدة، بدليل حالة الاستعداد التام لهجمات قوات الاحتلال ووحدتها المستعصية التي تستهدفها وتستهدف مقاوميها المرابطين على الثغور، الذين يفاجؤون الاحتلال بالكمائن وزرع العبوات الناسفة وغيرهما وكل ما يتاح لهم من أسلحة غالبيتها محلية الصنع وفي كل معركة يوقعون قتلى وجرحى في صفوفهم، حتى أصبح يحسب للمقاومة في الضفة ألف حساب عند أي اجتياح أو اقتحام لمدينة أو مخيم، كما حدث أمس، عندما تصدى مقاتلو حماس لوحدة المستعربين التي حاولت اقتحام مخيم طولكرم وأوقعت عدة إصابات في صفوفهم -بحسب الإعلام العبري- فإن قوات خاصة بما يسمى وحدة “دوفدوفان” و”حرس الحدود” شاركت في عملية الاقتحام مسنودة بأعداد كبيرة من جنود الاحتلال المصطحبة معها آليات و مصفحات وجرافات عسكرية في أثناء الأيام ، بهدف إرهاب وتخويف المواطنين، ولكنهم رُدوا على أعقابهم وهم يجرون خيبات الهزيمة.
هذه ليست المرة الأولى التي يحاول الاحتلال فيها اقتحام المخيم، بل حاول مراراً وتكراراً اقتحامه وفشل في مهمته، كما فشل في اقتحام المدن والمخيمات الأخرى في نابلس وجنين وأريحا والخليل، وطوباس والقدس، ورام الله، رغم كل ما يملكه من القوة الضخمة والعدة والعتاد التي يستخدمها في حملته العسكرية عند كل اقتحام، بسبب بسالة المقاومة، رغم إمكانياتها البسيطة وأسلحتها محلية الصنع، التي أجبرتها على الانسحاب مطأطئة الرأس، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الاحتلال لا يزال غير قادر على حسم المعركة وعدم وصوله إلى أهدافه الأمنية من كل عملية عسكرية يقوم بها، بدليل خسائره التي مُني بها في كل مرة، والمعنى الثاني؛ له علاقة بالشق الأول وهو محاولة الاحتلال تحقيق أي نوع من الانتصار حتى لو كان على حساب المدنيين لإرجاع الهيبة والردع اللذان تآكلا في الفترة الأخيرة وتراجعت معها أسطورة الجندي الذي لا يقهر، كما حدث في 3 يوليو الماضي في معركة “بأس جنين”، وقد أسمى الاحتلال هذه العملية العسكرية في حينه بـ “بيت وحديقة”، وقد دفع فيها بتعزيزات عسكرية ضخمة لأكثر من لواء بكامل أسلحتهم، ومعززة بأسراب من المسيرات من الجو، -وعلى حد وصف المراقبين- تستطيع (إسرائيل) في السابق بهذا الكم من الجيش والعتاد أن تحتل دولة بكاملها، ولكنها عجزت عن كسر مخيم جنين، الذي لا تتجاوز مساحته نصف كلم المكتظ بالسكان، وقد قتلت وجرحت قوات الاحتلال في مخيم جنين عددًا كبيرًا من المدنيين ودمرت بنيته التحتية بالكامل وهدمت كثير من بيوت المواطنين وجرفت الشوارع والمزارع، رغم ذلك لم تستطع أن تقتل روح المقاومة في جنين، وبلا شك، فما ينطبق على جنين فهو ينطبق عل باقي المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية في الضفة.
يدرك الاحتلال أن المقاومة في الضفة تتصاعد يومًا بعد يوم، وأصبح عاجزًا تمامًا على إعادة سيطرته العسكرية والأمنية عليها، فلا يستطيع أن يفعل كل ما بدى له بمواصلة جرائمه وإرهابه بحق الشعب الفلسطيني، بل رأيناه ينسحب ويهرب بقواته تحت شدة ضربات المقاومة التي تلاحقهم في كل مكان في الضفة المحتلة، دليل على حالة الضعف الأمني والعسكري في وقف العمليات الفدائية والقضاء على المقاومة بشكل عام.
إن الضفة الغربية تشهد واقعاً جديداً مختلفاً عن السابق، باستمرار المقاومة وهو ناتج عن كم كبير من الضغوط السياسية والاقتصادية والعسكرية والكبت النفسي من جراء ممارساته القمعية، ومصادرة الأراضي وهدم البيوت وسياسة التهجير القسري، والاعتقالات، التي نفذها جيش الاحتلال والمستوطنين في الضفة والقدس، كل هذه الأسباب كانت كفيلة بانفجار الوضع الأمني في الضفة في وجه الاحتلال، الذي أصبح أمام جيل جديد من المقاومين يسمى بجيل الاجتياحات أو جيل الانتفاضة الثانية، الذين تزامنت ولادتهم مع احتياجات الاحتلال لمدن الضفة أبرزها ما أطلق عليه عملية "السور الواقي" عام 2002، وما تبعها من تنكيل بالسكان، وقد كبر هؤلاء على مشاهد المجازر والخراب والدمار التي اقترفها الاحتلال في مخيم جنين وباقي المناطق الفلسطينية.
إن إصرار الاحتلال على اتباع إستراتيجية عسكرية تقول: “ما لا يتحقق بالقوة يمكن أن يتحقق بمزيد من القوة”، متجاهلًا أن لكل فعل رد فعل، وأن العنف لا يولد سوى المزيد من العنف، وحتى أن الحوادث التي كانت فيها الحجارة تُلقى باتجاه الجنود اختفت وحلت مكانها الزجاجات الحارقة وتبادلٍ لإطلاق النار، وأصبح الاحتلال في حالة لا يحسد عليها، ما "يعطي انطباعًا بأن طبيعة ونوع المعلومات التي بحوزته لم تكن متكاملة، بحيث تسمح له بالتعامل مع الحالة الميدانية بشكل مريح، ووفقًا للمراسل العسكري الإسرائيلي، يوآف زيتون، “أن المؤسسة الأمنية استيقظت بشكلٍ متأخرٍ جدًا وتُحاوِل إغلاق السد العارم بواسطة الأصبع، وعلى حدّ توصيفها فإن أكثر ما يقُض مضاجع القوى الأمنية الإسرائيلية أنّها لا تملك معلومات عن عدد أو حجم الأسلحة الموجودة بالضفّة الغربية، مضيفًا أن الجيش لا يعرف شيئًا ولا تقديرات لديه عن الظاهرة أو حتى تكهنًا حولها، موضحًا أنّه من خلال إحاطة من الشاباك والجيش وباقي القوى الأمنية فإن عدد الأسلحة بالضفة الغربية يصل إلى عشرات الآلاف وربما أكثر”. وقد تكون وجهة النظر هذه صحيحة، لكن ما يتفاجأ به الاحتلال هو طبيعة هذا الجيل الشبابي الجديد المقاوم وتطور تكتيكاتهم وأدواتهم وخبراتهم، ما يصعب مهمة الاحتلال في التعامل مع تشكيلات غير واضحة وغير معروفة وأكثر بأسًا.