غزة - محمد هنية
كانت الساعة تشير إلى الحادية عشر مساء، بينما قلب ياسمين يغلي على عدنان، تضرب كفاً بكف في ليلة قاسية تبدو من عنوان أخبارها العاجلة "اقتحام مشفى العودة" !
يرن الهاتف ببطئ وتزيد ثواني انتظارها سماع صوته حرقة قلبها وقلقها عليه، ردّ على عجل "ياسمين الجيش بنادي عليّ ديري بالك على حالك وعلى الأولاد.. ادعيلي"، انتهت المكالمة.
كان الصوت الأخير ووصية الوداع، من الطبيب لمريضته التي أصيبت بعلّة الاشتياق له مذ حمي وطيس الحرب، وزادت أيام البُعد وحصاره بالمشفى لـ 18 يوماً مرضها، حتى ألقت كل هموم الأرض ثقلها على قلبها مع خسارة طبيبها مدى الحياة.. حيث غاب الجرّاح الشهير واستوطنت في خسارته أوجاع لا تُشفى بدواء ولا زمن.
الاستثنائي في حياته، وحتى أسره واستشهاده، هكذا تصف "ياسمين" زوجة الطبيب الجرّاح الشهيد عدنان البرش، فقيدها، الذي ما غادر غرف العمليات الجراحية في مشافي مدينة غزة وشمالها منذ بداية الحرب، وختم مسيرته باعتقال ثم شهادة في الأسر إثر تعذيب قاسٍ وشديد.
جالت كل السيناريوهات في رأسها، منذ انقطع الاتصال بعدنان يوم 18 ديسمبر 2023، ولم تكن في أسوأها ما حصل معه فعلا، حين ارتقى يوم الجمعة 19 ابريل شهيدا، بعد تعذيب دامٍ أنهى حياته حين ركله السجّان بقسوة ودفعه وسط الزنزانة فوقع ولفظ أنفاسه الأخيرة.
كانت كل هذه الأحداث مجهولة لدى عائلة الشهيد عدنان البرش، حتى جاءت "الصدفة" تُخبر زوجته أن ثمة جثمان في مشرحة مصلحة السجون تعود لـ "عدنان البرش".
حيث كان ذوي شاب فلسطيني من غزة مفقود يبحثون عنه في السجون عبر نادي الأسير الفلسطيني، فاتصل النادي بالشؤون المدنية يسألونه "هل اسم فلان لديكم؟"، لترد الشؤون المدنية بالنفي، ثم أبلغته "بوجود جثة لأسير اسمه عدنان البرش بهوية رقم…".
الصدمة كانت ثقيلة وجرّت بثقلها أسئلة صعبة نحو زوجته "ياسمين" للتأكد من هويته، فكان الجواب صحيحا وصريحا، "لقد استشهد عدنان وجثمانه في المشرحة منذ أسابيع ولم نعرف".
ذاك الملخص المُوجع قالته زوجة الشهيد لوكالة "شهاب"، وهي تروي بحرقة ودمع ما حصل مع زوجها، حيث عايش أهوالاً قاسية رواها لها أسير رافق زوجها.
"بعد صلاة الجمعة انتقل عدنان لسجن عوفر، وقد تعرض لضرب شديد طوال تنقله، ضربوه بقسوة ونكّلوا فيه وقدميه ويديه مربوطتين بجنزير حديدي وظهره محنيّ وسط ضرب لا يتوقف"، تقول ياسيمن.
وتُكمل "جاء سجّان بعضلات مفتولة ورفع الأصفاد بيديه بقوة فقلب عدنان وارتطم رأسه بقوة على الأرض، فدخل في غيبوبة لم يقوى خلالها على الوقوف، حتى نادى السجان بأسير ليحمله معه على الزنزانة في الطابق الثاني، ولم يتوقف ضربه رغم الاغماء وألقى به وسط زنزانة السجن.. فوقع عدنان أرضاً ولفظ أنفاسه الأخيرة".
فقدت أسرة عدنان رُبّانها الذي كان هو من يخشى فقد عائلته، حيث كان ينظر لكل طفل مصاب قادم من مجازر الاحتلال بأنه طفله، كما كان يُصارح زوجته، الأمر الذي دفعه لنقل أسرته إلى المشفى كي يبقوا تحت عينه ويواجهوا ذات المصير.
عن تلك اللحظات تقول ياسمين "كان يسترق بعض الوقت بين العمليات الجراحية فيجلب الطعام لنا في الغرفة ويلاعب أطفاله، كان يصنع لطفلته بالونا من قفاز العمليات مُحاولاً صنع بهجة لها.
ومع اجتياح الاحتلال لمشفى الشفاء، قرر الشهيد الطبيب العودة إلى شمال غزة، حيث مسقط رأسه، رافضا النزوح جنوب غزة، وقد عبّر عن ذلك لزوجته "أنا ابن الشمال يا بعيش فيه يا بموت فيه".
ولم يكن هذا الإصرار بالثبات في غزة وليد اللحظة، فهو من قرر العودة إليها بعد اغتراب سنوات، رافضا كل مغريات العمل في الخارج، وشعاره "شعبي أولى بعلمي".
وكان المشفى الاندونيسي شمال غزة، وُجهة عدنان حيث صُدم بقائمة تضم عشرات عمليات العظام، ولم يكن بالمشفى سوى طبيب عظام واحد فقط، ثم انتقل بعدها لمشفى العودة بعد محاصرة الاندونيسي، ليُنهي رسالته هناك طبيباً وجرّاحا حتى اعتقاله واستشهاده.
أما عن آخر اجتماع عائلي عقب اجتياح مشفى الشفاء، في شهر نوفمبر حيث كان اللقاء الأخير في المنزل قبل تدميره من قبل طائرات الاحتلال قبل شهر من اعتقاله.
تقول زوجته "صمم بيتنا بكل احترافية ووضع كل شيء نفسه فيه بالبيت، هو ثمرة شقى العمر، كان مؤلم أنه الاحتلال يحسره على بيته لكن والله ما ضعف، وقال لي (والله لأعمره وابنيه أحلى من قبل، هسكن في حديقة المنزل بخيمة وأبنيه قدام عيوني)".
كان استهداف المنزل مثابة عقاب لطبيب وجرّاح العظام الأشهر في قطاع غزة، وهو الذي قاد قسم العظام بمشفى الشفاء رفقة 10 أطباء آخرين ظلّوا متمسكين بالبقاء في مدينة غزة.
قضى الاحتلال على أحلام عدنان التي صُنعت في الحرب، فالمنزل قُصف ولن يبنيه أمام عينيه، وحتى أطفاله سيكبرون دون ناظريه، وهو الذي أسرّ زوجته عن خطوته الأهم بعد الحرب بتخفيف أعباء مهنته والانتباه لأطفاله وهم يكبرون.
لكن أولاده الخمسة حيث يبلغ كبيرهم 14 عاماً، وصغيرهم ثلاث سنوات وطفلته، فقدوا عامود بيتهم، ومُوجه حياتهم، في رحلة لا تزال تستكملها زوجته بثبات فتقول "لا حياد عن طريقه ومش هنترك غزة وقاعدين فيها".
ذاك الثبات بين الياسمين وعدنان له جذور متينة، فهي الطالبة المغتربة التي حطّت رحالها في غزة لتلقي تعليمها الجامعي وحيدة حيث يقيم أهلها في السعودية، ولم تكن تعلم أنها ستكون محطّ نصيب طبيب غزة الأشهر.
"كلي فخر وعزة إني كنت زوجة طبيب وجراح عظيم الدكتور عدنان البرش، الحمد لله أعطاني إنسان وزوج صالح.. لو في عصر من عصر الصحابة لقلت هو صحابي"، تقول ياسمين بدموع الحسرة.
وتضيف "أنا خسرت زوج هو كان حياتي، مررت بالحصار ونساني الحصار والحياة الصعبة، اختارني من بين كل البنات.. بنات غزة والعالم، والوحيدة اللي اختارني أنا".
وتتابع بدموع تسبق حروفها "أنا كنت وحيدة هنا وهو كان كل أهلي ونساني أهلي، كنت بعشق التراب اللي بمشي عليه.. هو أكبر خسارة بحياتي لكن هذا اصفطاء".
أنهى عدنان عملياته الجراحية باتقان، وأثر لا تزال تلمسه عائلته من مصابين كُتب لهم الشفاء على يديه، وقد أصاب بنجاح تحليله السياسي لزوجته عن الحرب منذ أيامها الأولى "هذه حرب مختلفة.. ستطول وتشتد لكن سنحقق فيها ما لم ننله في تاريخنا السياسي"، كان ذلك آخر تحليل سياسي للطبيب الحاصل على ماجستير العلوم السياسية، رغبة منه في فهم "العملية السياسية الفلسطينية"، كما كان يفهم عملياته الجراحية.