كانت غريبة تلك المشاهد التي بثتها وسائل الإعلام في أكثر من دولة أوروبية (بسبب أزمة فيروس كورونا) لبعض المواطنين الأوروبيين وهم يشتبكون بالأيدي ويقتتلون للحصول على بعض عبوات أوراق المحارم، ويتسابقون لتخزين المواد الغذائية بمختلف أصنافها ويفرغون أرفف المتاجر الكبرى من البضائع في حالة هلع غير مسبوقة، بل لقد بثت بعض وسائل الإعلام مشهدًا لمواطن أوروبي سجلته كاميرات المراقبة في أحد المطاعم وهو يسرق لفائف الورق المخصص للتنظيف من داخل أحد الحمامات، ربما لو حدثت هذه المشاهد في بعض الدول العربية لما كانت غريبة ومستهجنة بالنسبة للمشاهدين ولكن كونها حدثت في الدول الأوروبية (المحتضرة) لاقت كل هذا الاستغراب حيث تعود العالم على المشاهد الراقية والتصرفات الحضارية للمواطن الأوروبي.
مثل هذه المشاهد تدلل على أن الأزمات تكشف المعادن الحقيقية للشعوب فتظهرها خالية من أي مُجملات أو مُحسنات فظهر جليًّا أن مشاهد الرقي والحضارة المصحوبة بالتصرفات والسلوكيات الراقية من قبل المجتمعات الأوروبية إنما هي نتاج حالة من الرخاء الاقتصادي والاستقرار السياسي الذي عاشته هذه الدول مما أكسب الشعوب حالة من الرضا العام جعلهم وبشكل لا إداري يتصرفون على نحو من المسئولية الأخلاقية التي سرعان ما تلاشت حينما شعر المواطن أن الحكومات لديه عاجزة عن حمايته أو على الأقل لا تستطيع أن توفر له حالة الأمان والرضا التي تعود عليها، فظهرت خبايا النفوس الكامنة خلف ستار الحضارة والرقي، هذه المشاهد تدفعنا للمقارنة مع مشاهد أخرى وقعت أحداثها في مكان آخر من العالم ربما يعده البعض من أكثر الأماكن بؤسًا وحرمانًا على مستوى العالم وهو قطاع غزة، وأقصد بهذه المشاهد مشاهد حريق النصيرات تلك الكارثة التي أدت إلى وفاة وإصابة العشرات وحرق مصادر رزق مئات من المواطنين، لقد كانت مشاهد سلوك المواطنين مختلفة تمامًا عما حدث هناك في أوروبا فشاهدنا حالات التلاحم الشعبي الرائع من مواطنين عرضوا أنفسهم لخطر الموت الحقيقي في سبيل إنقاذ آخرين ربما لم يكونوا رأوهم أو عرفوهم قبل ذلك في كل حياتهم، لم نشاهد عمليات نهب أو سلب للمحال التي تركها أصحابها بكل ما فيها وإنما رأينا مشاهد تدل على عظمة شعب لم تظهر للمرة الأولى ولكنها أصبحت من المشاهد المعتادة التي من كثرة ما صدرت للإعلام أصبح التعاطي معها أمرًا اعتياديًّا لا يلفت انتباه أحد وذلك أنها مشاهد كثيرة متلاحقة وقد شاهدناها في الحروب المتكررة ضد قطاع غزة، وفي تحدي الحصار ومسيرات العودة واعتصامات التضامن مع الأسرى والتكافل الاجتماعي الذي عز نظيره في أماكن أخرى من العالم إلخ من هذه الأحداث التي ظهرت فيها عظمة الشعب الفلسطيني دون أي تكلف أو تصنع.
الفرق بين المشهدين يجعل الرائي يفهم أن الشعوب العربية لم تجبل على سوء الأخلاق أو سوء التصرف وليست بعيدة عن قيم الحضارة الراقية بل إنها أقرب ما تكون منها ولكن ما يظهر قبح السلوكيات والتصرفات هنا أو هناك إنما مرده إلى سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي وضعت الشعوب العربية فيه، ورغم ذلك بقيت متشبثة بقيمها الحضارية الإنسانية الرائعة التي تظهر في أوقات الشهدة لتكشف المعدن الأصيل لشعوبنا بعيدًا عن زيف وبريق الحضارة الغربية المصطنع.
ولو تيسر للشعوب العربية من الرفاه الاقتصادي والاستقرار السياسي ما توفر لغيرها من الشعوب الأوروبية لضربت مثلًا رائعًا ومتقدمًا في الحفاظ على القيم الإنسانية التي اكتسبتها منذ غابر الأزمان وبقيت هذه القيم الجميلة كامنة في أعماق نفوسها فظلت نفوس كبار جبلت على إغاثة اللهفان وإكرام الضيف ونجدة المكروب وحماية الجار والإيثار والتضحية في سبيل الغير وما أجملها حين تغلف بغلاف الحضارة والرقي. تلك النفوس التي قال فيها يومًا الشاعر المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا ... تعبت في مرادها الأجسام