العالم لا يتغير مرة واحدة، وما نصفه بالتحولات العميقة، أو المنعطفات الحادة، ليست إلا ذروة من سلسلة ذرى كانت تصلها حركة التاريخ التي لا تتوقف عن الحركة والدفق والدفع، وبعض تلك الذرى أبلغ من أخرى في الكشف عن الوصول إلى بدايات جديدة في حركة التاريخ، التي تزيفها مظاهر الاستقرار والبطء والرتابة حتى تبدو وكأنها ساكنة، وحتى يتجرأ البعض فيتحدث عن "نهاية التاريخ"، وحتى أننا ندهش من فجأة تلك الذرى.
كانت الثورات العربية مفاجأة ومدهشة، وقد بدأت حالمة ورومانسية، وبعدما انعطفت انعطافتها "الطبيعية" صوب العنف والفوضى والغموض والتداخل المعقد، كان ينبغي أن ينظر إليها على أنها ذروة حتمية من ذرى حركة التاريخ المتتابعة نحو مداولة الأيام وإعادة تدوير حركة الحضارة، ولو في المجال العربي وحده، وإن كان محالا في هذا العالم أن ينغلق مجال واسع كمجال العرب، عن التأثير والتأثر.
ثمة فكرتان هنا، تقول الأولى إن حركة التاريخ لا تتولد من العدم، وإنما تبني ذاتها على سلسلة أفعال وحوادث ومقولات، تفضي كل منها إلى أخرى، وبهذا فإن كثيرا من الأفعال التي تبحث لنفسها عن مكان في التاريخ لا تذهب هباء منثورا، حتى لو بدت يائسة، أو محض قيام بالواجب، هنا يمكن لنا أن نفكر أن إيمان خديجة زوج النبي، واستشهاد سمية أم عمار، كانت من الأفعال التي تبدو صغيرة، ولكنها كانت ضرورية كي تكتمل عوامل حركة التاريخ نحو الهدف المحدد.
تقول الفكرة الثانية، إن الأفعال في التاريخ لا تنبني على بعضها فقط بالتتابع، وإنما بالتزامن والتوازي أيضا، دون أن ينغلق عليها المكان، وبهذا فإن الثورات العربية ذروة لجملة عوامل كانت تتابع في التاريخ في عدد من الأماكن، ولجملة عوامل كانت تتزامن أيضا وإن اختلفت مجالاتها الجغرافية.
في هذا السياق يمكن أن نتحدث عن عوامل هائلة محددة، وأخرى أقل تحديدا، فضلا عما لا يمكن حصره، أو استعصى على الملاحظة، أو على إدراك دوره وأهميته، منذ أقل من أربعين عاما، أي منذ الاحتلال السوفييتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية، وبداية انهيار اليسار الماركسي في العالم، ومنذ ذلك الوقت حصلت أحداث ضخمة في فلسطين والمنطقة العربية والعالم.
خرجت الثورة الفلسطينية من بيروت، واندلعت انتفاضة الشعب الفلسطيني الأولى، وانهار الاتحاد السوفييتي، ودخل العالم في حقبة الأحادية القطبية، ونشبت حرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت)، وقامت السلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، وانسحب الاحتلال من جنوب لبنان، وانفجرت الانتفاضة الثانية، وحصلت هجمات 11 سبتمبر، واحتلت أمريكا أفغانستان والعراق الذي أدخلته في فوضى مفتوحة، ودخل العالم ومراكزه الاقتصادية الكبرى في أزمة مالية طاحنة، وخاض قطاع غزة عددا من الحروب الهائلة من بعد انقسام فلسطيني عميق.
وفي الأثناء كانت النزعات اليمينية والقومية والفاشية تتصاعد في أوروبا، وأخذت روسيا تبحث عما يعزز هويتها ومكانتها في مواجهة الغرب، بينما أخذت الصين تتعاظم اقتصاديا على نحو مس عصب المخاوف الأمريكية، أما الدولة العربية، دولة ما بعد الاستعمار، فقد فشلت في كل شيء، في الإجابة عن الأسئلة الكبرى المرجأة دائما، مثل فلسطين، الوحدة العربية، موقع الدين من المجال العام.. الخ، أو الأسئلة المحلية التي تصدرت لها الدولة وأرجأت لأجلها كل شيء، التنمية، الاقتصاد، التمثيل السياسي.. الخ.
تلك فقط بعض العوامل التي كانت تتابع أو تتزامن، وهي بدورها حصيلة لعوامل أخرى، ومع جسامتها، كان ثمة تصور دائم، بأن التاريخ قد توقف عند الركود العربي، وعند الانتصار الغربي، بقيمه واقتصاده وعلومه وآلته الحربية.
حينما قامت الثورات العربية، تبين أن الركود لم يكن مآل العرب الأخير، وعندما تمددت وطالت ونجمت عنها تناقضاتها عاد بعض العرب مجددا إلى جلد الذات وإقامة المقارنات اليائسة والمزدرية للنفس، دون ملاحظة أن استعصاء الواقع على الثورة مرحلة حتمية في تاريخ عربي طويل تراكمت فيه المشكلات الضخمة التي عبرت من الانهيار إلى الاستعمار إلى الاستبداد فالفشل في كل شيء، ودون ملاحظة أن الاستطالة والشمول والعمق والفوضى وارتعاش قوى التحكم التقليدية كلها، وأخذ الجماهير العادية والمسحوقة موقعا متقدما في حركة التدافع التاريخي؛ هي سمات ضرورية لذروة افتتاح دورة تاريخية جديدة.
قسمت الثورات العربية العرب، وجرت إليها العالم، وكما انهارت التحالفات القديمة أخذت القناعات الراسخة في الانهيار، انهارت صور القوى والكيانات والأحزاب والشخصيات، لم يعد يرى الإخوان المسلمون أنفسهم كما كانوا من قبل، وخسر حزب الله رصيده كله، ولم تعد إيران قلعة المستضعفين في مواجهة الاستكبار، وصار رسوخ التجربة التركية محل شك، وتكشفت حقائق صادمة عن الجيوش ومؤسسات التعليم والقضاء والدين والإعلام.. كل شيء أخذ ينهار فعلا..
لم يكن انجرار روسيا بدورها إلى الحالة العربية السائلة منفكا عن صراعها مع الغرب، ورؤيتها لنفسها ولأوروبا والعالم، وفي الوقت نفسه كان الغرب يتعرى وقيمه تنهار وهو يتخلى عن مسؤولياته في مقاربته للحالة العربية، مسؤولياته التي أوجبتها عليه قيمه المدعاة وشعاراته المعلنة، وقبل ذلك ما ينبغي أن يكون ثمن ما جناه من الاستعمار وتسيده العالم.
ثارت محاولات كثيرة لفهم الدوافع الغربية في موقفها من سيرورة الثورات العربية؛ محاولات انطلقت من المقاربات السياسية والاقتصادية الصرفة إلى المقاربات التاريخية والحضارية، وعاد الكامن الحضاري في العرب والمسلمين، والتاريخ الموتور، من جديد أداة لفهم الموقف الغربي من الثورات العربية.
وكان يحايث ذلك التحولات في الغرب نفسه، في أوروبا وأمريكا، من صعود اليمين والقوميات والفاشية من جديد، وهو صعود له سياقاته الخاصة دون أن ينفك بدوره عن التحولات العربية، وظاهرة داعش، وتقدم تركيا الاقتصادي ونزعتها الخجولة نحو الاستقلال، والتحدي الاقتصادي الصيني، وعودة الفاعلية الروسية، وفي قلب ذلك كله كانت الثورات العربية.
خلقت الثورات العربية مثلا بيئة رخوة لتحويل المشروع الأوراسي الروسي من التنظير إلى الواقع، وذلك بالتكامل مع المحور البري العربي للحد من الأحادية القطبية، فبحسب ألكسندر دوغين، المفكر الجيوسياسي الروسي، يشكل الشرق الأوسط ساحة حتمية للصدام بين روسيا وأمريكا، كما تشكل "الأصولية الإسلامية" عقبة أمام المشروع الأوراسي.
ذلك مجرد مثال على التشابك الشديد وموقع العرب وثوراتهم منه، هذا المثال الروسي يبحث عن محتوى إيديولوجي -تشكل الأرثوذوكسية المحافظة عنصرا أساسيا فيه- يواجه به الليبرالية الغربية، في وقت أخذت فيه اليمينيات في الغرب بالصعود، وفي الأثناء، ومن بعد الثورات تقدمت في المجال العربي أسئلة الإصلاح والهوية والدين والعلمانية بقوة، وكان الشقاق الإيديولوجي واحدا من مظاهر ما بعد الثورات، وأحد مداخل الثورة المضادة.
بالنظر إلى المشكلات الضخمة المتراكمة، والقطيعة الحضارية، والفرص المضللة التي تتيحها السيولة والانفراط من بعد الثورات، لم يكن بالإمكان حسم الخلاف حول تلك الأسئلة بمجرد الحوار، أو بطرح الأفكار للتداول السلمي المسنود إلى التدافع السياسي الناعم، ولكن لأن جزءا من المشكلة مؤسس على القطيعة الحضارية الناجمة عن الاستعمار، وعلى قوة القيم الغربية المستندة إلى القوة المادية، الاقتصادية والتقنية والعسكرية، وقوة النموذج السياسي، فإن التدافع العنيف في مجاله العربي وحده، لن يكون كافيا أيضا لحسم النقاش حول تلك الأسئلة.
تقتضي الحتمية التاريخية هنا، من أجل اكتمال دورة تاريخية فارطة، وافتتاح أخرى جديدة، وإقفال الذروة الانتقالية المتسمة بالغموض والتوتر والعنف؛ عودة النقاش حول تلك الأسئلة إلى مجال القوى الغالبة نفسها، وإثارة الشك من جديد حول القيم الغربية التي تقسم العرب والمسلمين.
حينما فاز ترامب، انتشرت عبارات، الانقسام، انقسام المجتمع الأمريكي، النخب، المؤسسة، الأكاديميا، الإعلام، أوروبا، وعبارات الخوف، القلق، الخزي والخجل، وعربيا ظهرت مقاربات، بعضها -وكأنها من موقع المتهم أو الذي يخشى الخيبة والهزيمة- يحاول الدفاع عن الديمقراطية التي شوهها فوز ترامب، وبعضها –وكأنها من موقع الذي قد ظفر أخيرا بانتصار غير متوقع- يؤكد أن فوزه انكشاف للوجه الأمريكي الحقيقي، وهكذا صارت القيم التي استحوذت على البشر وأخذت صفة الكونية مستندة إلى قوة الصانع الغربي؛ محل شك، وعرضة للانهيار.
لا يمكن لأمة أن تحسم هذه الأسئلة من موقع الضعف والمفعول به، لأنها بالضرورة سوف تتردد بين المتحصن في الماضي، وبين المنفلت إلى النموذج الراهن القوي، وحينما يتغير موقع الأمة، ستكون كثير من تلك الأسئلة غاية في السهولة، وسيقل التحفز والتحفظ والاندفاع في الإجابة عليها، ولكن هذا التغير يتطلب قبل ذلك، إشراك العالم معنا من جديد فيها، ولاسيما العالم القوي، العالم الذي غلبنا طويلا.