يكفي الإنسان العربي الوقوف أمام سجل المعتقلات العربية، التي تتسابق لمطاردة الفلسطيني واصطياده في شباك معتقلاتها. وهذا الفلسطيني هنا هو اللاجئ في بلدان عربية جراء النكبة التي لحقت به منذ أكثر من سبعة عقود، ومن صمد وبقي في أرضه تحت الاحتلال حاله لا يختلف كثيراً في الشبهة المُطاردة له بحمل اسم فلسطين وقضيته على منكبيه لتكون عنوان شقائه الأبدي.
في المنافي العربية قصص كثيرة عن حالة الظلم والقهر التي يتعرض لها أبناء فلسطين من أنظمة عربية؛ بات عنوانها الأساسي مطاردة وحصار وشيطنة القضية الفلسطينية وأبنائها، وبات إرهاب أجهزة المخابرات العربية شغله الشاغل تقديم صك البراءة من علاقته بالفلسطيني كقضية، وفرض لغة ناعمة لمصلحة ممارسات قاسية أحياناً وباطشة في كل الأحيان؛ في عواصم تدعي العروبة من القاهرة ودمشق وبيروت وبغداد إلى من يحمل لواء "الإسلام" في الرياض وأبو ظبي.
لا نبالغ في رسم صورة الكراهية والعداء لفلسطين في الفروع الأمنية العربية، وفي الأنظمة التي تحاول تغطية بطشها بأبناء فلسطين بقضاء صوري قائم بالأساس على إرهاب وبطش المجتمعات العربية، فلا يستطيع أي عاقل فهم الأسباب الحقيقية على سبيل المثال لاعتقال السلطات المصرية الفلسطيني رامي نبيل شعث، الناشط في حركة المقاطعة الدولية لبضائع المستوطنات الإسرائيلية، منذ الخامس من تموز/ يوليو 2019، إلا من خلال تلفيق التهم الجاهزة التي دأب قضاء النظام العربي على استخدامها ضد خصومه في مجتمعه وضد الشارع.
في العام 2019، اعتقلت السلطات السعودية ممثل حركة حماس السابق محمد الخضري (82 عاما) مع نجله هاني، بذريعة استجواب لمدة خمس دقائق، لتحكم عليه أخيرا بـ15 عاما بالسجن وبأحكام أخرى تصل إلى 22 عاما على ستين فلسطينيا يقبعون في السجون السعودية، بينهم الشاعر أشرف فياض.
بالطبع الشريك المبجل لهذه الممارسات القمعية نظام الأسد في دمشق، الذي يتبوأ مكانة لا ينافسه عليها سوى العقل الصهيوني المستفيد من ممارساته وجرأته غير المسبوقة في إدارة المسالخ البشرية في معتقلاته وسجونه بحق أبناء فلسطين، والذي يخفي الأرقام الحقيقية لهم خلف القضبان وفي السراديب.
منذ تفجر الثورات العربية، واستحكام الثورات المضادة في مصيرها ومآلاتها، اتضحت آفاق الصراع لمعسكر الثورات المضادة في القاهرة والرياض وأبو ظبي والمنامة وتل أبيب ودمشق وبغداد؛ في تقدير المخاطر التي رسمتها تل أبيب للنظام العربي المتصهين للحفاظ عليها وعليه. صحيح أن الردح الإعلامي العربي في الفترة الأولى من الثورات صب جام غضبه على أبناء فلسطين كـ"ناكرين للجميل ومعقل للإرهاب المزعزع للأنظمة وشياطين للإخوان والإرهاب". واستعارت بعض ألسنة أبواق الأنظمة في دمشق والقاهرة والرياض وأبو ظبي ألسنة صهيونية تعينها على ذلك، لكن ذلك لم يمنع مطلقاً من إعادة اللغة الناعمة لمصلحة سياسة البطش، ويستطيع النظام القمعي الاستعانة بقضائه وجيشه ومؤسسته الأمنية لإثبات أحقية جرائمه، كما يفعل بتغطية جرائم قتل وتشريد الملايين وتقديم خطاب للعالم بـ"إنني أحارب عدوي وعدوكم".
السلوك القمعي والوحشي تجاه أبناء فلسطين في المعتقلات العربية؛ معروف السبب والمقصد من ورائه، وهو محاولة ضرب وزعزعة المكانة الأخلاقية لقضية فلسطين العادلة الوطنية في وجدان الشارع العربي؛ لإعلاء شأن التصهين وتبرير الانبطاح أمام عدو الشعوب العربية، والتآمر معه ضد مصالح الفلسطينيين الوطنية وتبرير سياسة الاستبداد والطغيان.
لكن للأسف غياب سياسة رسمية فلسطينية رادعة لهذه الممارسات ومتساوقة معها في كثير من المحطات هو الذي يعطي جرأة عربية رسمية تزاود في البطش والتصهين، مع غياب إدانة فلسطينية صريحة لعمليات قتل الفلسطيني وتعذيبه في فروع فلسطين والجوية والأمن السياسي وغيرها لدى نظام الأسد، وتغطيتها فلسطينيا بشعارات تافهة عن فلسطين ودعوات للتطبيع مع سفاح أبنائها في دمشق، والحفاظ على تواصل أمني مع نظام السيسي ولغة ناعمة مع الرياض وأبو ظبي، بما يخدم أجندة صهيونية في فلسطين جعلت واقع المعتقلين لدى هذه الأنظمة مأساويا وكارثيا، وأعطت للمستعمرين في فلسطين بارقة من حقبة استعمارية جديدة.
ما برح النظام العربي في دمشق والرياض والقاهرة وأبو ظبي؛ يسجل مساهمته في دم الفلسطينيين وفي قهرهم وإذلالهم. وخلال السنوات العشر الماضية ضجت الذاكرة الجماعية للفلسطينيين بخيوط الدم المسفوك في فروع الأسد المدعوم من حراس بقية المعتقلات العربية، لكن الصدفة أن تتكثف الذاكرة في تسجيل مساهمات عربية في القهر والتدمير للفلسطيني وللإنسان العربي، لتصبح فلسطين عنوانا للاعتقال والمطاردة وسحق الكرامة الوطنية والإنسانية، وليسجل كل ذلك كإنجاز في المساهمات الصهيونية الحامية لبطش السجان والنافخة بهوس الحاكم الأبدي.