غزة – محمد هنية
تطغى أحداث الفلتان الأمني على الضفة الغربية المحتلة بشكل متصاعد هذه الأيام، وصلت حدّ إطلاق الرصاص بين كبرى العوائل وحرق ممتلكات المواطنين ومحالهم في الخليل، وظهور مشاهد التخريب والتكسير المتعمد، وتصاعد عمليات قتل المواطنين.
أحداثٌ يدفع المواطن الفلسطيني فاتورتها من دمائه وأمواله وممتلكاته، في وقت تعجز فيه منظومة الأمن التابعة للسلطة بأجهزتها الخمسة وامتداداتها الطويلة من التشكيلات العسكرية في تأمين حياة آمنة للفلسطينيين، بينما تضع جُل اهتمامها في التنسيق الأمني وملاحقة المقاومين والمعارضين وأصحاب الرأي، بل والمشاركين في جنازات خصومها !
الاهتمام الأخير الذي برز أمس، يتمثل بالإعلان الرئاسي بإجراء حملة تنقلات وصفتها مصادر بـ "العقابية" لقادة الأجهزة الأمنية في مدينة جنين بالضفة الغربية، بسبب مسيرة مسلحة لكتائب القسام في تشييع القيادي في حركة حماس ووزير الأسرى السابق وصفي قبها.
وبينما تحافظ السلطة على تشييع مسؤوليها من المستويات المختلفة "وزراء حاليين وسابقين" بجنازات عسكرية ورسمية كان آخرها جنازة صائب عريقات كبير مفاوضي السلطة، تغيب هذه الجنازات عن المسؤولين والقيادات من حركة حماس بالضفة الغربية.
ووصل الاستفزاز مداه لدى رئيس السلطة محمود عباس برفض ظهور سلاح المقاومة في جنازة قبها، إلى نقل مدراء أبرز 4 أجهزة أمنية في جنين، وهم مدير جهاز المخابرات العامة في جنين العميد محمد عبد ربه، وقائد منطقة جنين في جهاز الأمني الوطني العقيد باسم رشيد، ومدير جهاز الاستخبارات العسكرية في جنين العقيد طالب صلاحات، ومدير الأمن الوقائي في جنين العميد مجاهد علاونة.
ورغم تبرير المتحدث باسم أجهزة أمن السلطة طلال دويكات هذه التنقلات بـ "السياق الطبيعي وفي إطار عملية التغيير وتعزيز الحالة الأمنية"، إلا أن السبب الحقيقي كشفته مصادر مختلفة منها وزير الحكم المحلي الأسبق عيسى الجعبري.
وكتب الجعبري في منشور على صفحته فيسبوك، "السلطة قررت إجراء تنقلات طالت قادة الأجهزة الأمنية في محافظة جنين على خلفية تشييع وزير الأسرى السابق وصفي قبها، ومشاركة عدد كبير من المسلحين في الجنازة".
وأضاف "أن عدم قدرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على التعامل مع ظاهرة المسلحين والسلاح المقاوم في المحافظة، هو السبب الثاني".
وطرح الوزير السابق سؤالا مشروعا، "أين دور السلطة لتتخذ إجراءاتها بحق سلاح الفلتان الذي يعيث فساداً في مدينة الخليل؟".
فلتان الرصاص من مخازن السلطة !
الإجابة برسم الواقع، تظهر في جنين والخليل ونابلس ومدن الضفة المختلة، من خلال حالات القتل المتزايدة في جنين، كان منها قتل مسلحون للمواطن محمد أبو جاسر في أغسطس الماضي، وهو القتيل الخامس في السنوات الأخيرة على خلفية مشاكل عائلية في بلدة السيلة الحارثية، وكذلك مشاهد الاشتباكات بين مسلحين وأجهزة أمن السلطة في البلدة بسبب حملة الاعتقالات التي تطال المقاومين والنشطاء، ومن أبرز نتائجها إطلاق النار المتكرر تجاه مقر المقاطعة بجنين والذي يضم مجمع الأجهزة الأمنية.
وتفتك ظاهرة السلاح غير المنضبط وحوادث القتل والاعتداء بحالة الأمن في المدينة لا سيما في المناسبات المختلفة، في الوقت الذي تغض الجهات الرسمية الطرف عن فلتان السلاح الذي يمتد إلى مناطق أخرى في الضفة، منها نابلس التي برز فيها تصريح لافت في أغسطس الماضي للمحافظ إبراهيم رمضان الذي قال: "إللي عنده بارودة، البارودة زي مرته ما يطلعها برا، وما حدا يجي لما الأمن يصادر بارودة يقول هاي للتنظيم، أو بارودة للعميد الفلاني، طُز عليك وعلى العميد"، ما يشير إلى دور مهم لأصحاب نفوذ من داخل المؤسسة الأمنية لتغذية وحماية سلاح الفلتان.
وتنتشر في جنين كذلك شبكات تجارة السلاح والرصاص، لا سيما في دكاكين تتبع لحركة فتح أو للأجهزة الأمنية، ما يساهم في انتشار السلاح وأدواته المختلفة، بل وتأجيره في المناسبات المختلفة مقابل المال.
ولا تنسى جنين يوم حاصرت قوات الاحتلال المنزل الذي كان يأوي الأسيرين أيهم كممجي ومناضل انفيعات وهما من أبطال "نفق الحرية" واعتقلتهما من قلب المدينة، وكشف اعتقالهما عن دور للسلطة أكثر وقاحة من تقصي أثر الأسيرين في المدينة، والتنسيق الأمني لدخول الجيش إلى المنطقة الخاضعة بالكاملة للسلطة، إلى دور يتمثل برفض حمايتهما.
وكشفت قناة كان العبرية عقب الاعتقال عن رفض محمد اشتية رئيس حكومة رام الله طلب الأسيرين كممجي وانفيعات الذي أتى عبر وسيط لطلب الحماية والمأوى داخل مقرات الأمن الفلسطينية، متذرعا بـ "الخشية من التورط مع "إسرائيل" وسفك الدماء"، وفق تعبيره.
وتتعدد أدوار أجهزة أمن السلطة في جنين وباقي المدن الفلسطينية، إلى قطع كل سُبل العمل المقاوم، منها ملاحقة المركبات والدراجات النارية التي يستخدمها المقاومون في جنين، بينما تغض الطرف عن مركبات أخرى تقوم علانية بترويج الممنوعات دون أي اكتراث منها.
ويستخدم مقاومون مركبات ودرجات لا تحمل لوحات تسجيل ليصعب على الاحتلال والعملاء تقفي أثرهم، وهي ظاهرة تزعج الاحتلال، ما دفع أجهزة أمن السلطة لإنهائها لتحقيق الهدف المشترك في إطار التنسيق الأمني.
فلتان "المدينة الأكبر"
مشاهد أخرى لا تقل قسوة تطال أكبر مدن الضفة الغربية المحتلة بتعداد سكاني يصل لأكثر من 200 ألف فلسطيني في مدينة الخليل، التي يغيب فيها اهتمام أجهزة أمن السلطة بتوفير الأمن لها، بينما تجده حاضرا في أي ملف يتعلق بالتنسيق الأمني.
وكثيرة هي أنباء إعادة أجهزة أمن السلطة للارتباط الإسرائيلي عشرات المستوطنين ممن يقتحمون المدينة أو يدخلونها "خطئا"، كان أبرزها إعادة 3 مستوطنين دخلوا المدينة وبحوزتهم مخدرات عام 2018، والأبرز منها، إعلان أجهزة أمن السلطة الاستنفار الأمني لتأمين خروج حافلة للجنود الإسرائيليين عقب دخولها المدينة بالخطأ، وعشرات هي الحالات المماثلة.
أما المدينة التي لا يهدأ فيها صوت الرصاص منذ أيام بسبب تجدد الاشتباكات بين عائلتي الجعبري والعويوي على خلفية ثأر عائلي، لم تستطع أجهزة أمن السلطة أو الجهات الرسمية والعشائرية حله، تسود فيها مظاهر الفلتان بحرق المركبات والحافلات والمحال التجارية وإطلاق النار على منازل الآمنين وترويعهم.
وأظهرت صورٌ آثار حرائق وإطلاق رصاص على محلات لبيع اللحوم والملابس والخضار والفواكه والمفروشات، إضافة لمنازل وسيارات، وكذلك ديوان عائلة أبو عيشة، وحافلتين، وتجددت لخلافات بين عائلتي الجعبري والعويوي في شهر تموز/يوليو الماضي، بعد مقتل باسل الجعبري، في جريمة قالت عائلة العويوي إنها جاءت انتقامًا منه لدوره في جريمة قتل وقعت قبل سنوات، وهو ما رفضته عائلة الجعبري مؤكدة عدم صلة باسل في الجريمة المذكورة.
وتتعدى مشاهد الفوضى والفلتان في الضفة حدود العائلتين، لتزعزع أمن السكان المجاورين لها، وتنشر الرعب في مناطق مختلفة في المحافظة، حيث تكتفي أجهزة أمن السلطة بتطويق المناطق وقت الاشتباكات ومغادرتها لاحقا، دون وضع حدّ للمشكلات التي تتجذر يوما بعد آخر.
تعرف التفاصيل ولا تتحرك!
وتتفق جهات مختلفة على أن غياب أجهزة أمن السلطة يُغذي حالة الفلتان المنتشرة في الضفة المحتلة، وسط تساؤلات عن أسباب هذا الغياب؟ والمشهد الذي تريده السلطة لمدن الضفة التي تعاني أصلا من فلتان الاحتلال ومستوطنيه واقتحاماتهم المتواصلة للمدن ليلا ونهارا.
ويؤكد نشطاء من الخليل، أن أجهزة أمن السلطة لديها كافة المعلومات وأسماء مطلقي النار ومفتعلي المشاكل ومشعلي النيران في المدينة، وفق الناشط الشيخ ماهر برقان.
ويقول برقان "إن السلطة لم تعتقل أي شخص منهم، بل وتقف متفرجة أمام ما يحصل لا سيما وأن الأحداث تجري في مناطق تسيطر عليها وقرب أماكن وجودها ومراكزها الأمنية".
أما رئيس بلدية الخليل تيسر أبو سنينة، فحمّل السلطة وأجهزتها الأمنية سبب انتشار الفلتان الأمني في المحافظة، معتبرا أن أساس الفلتان أيضا ضعف القضاء وغيابه، ما أدى إلى محاولة العوائل أخذ حقها بيدها.
وقال أبو سنينة في تصريحات صحفية، "إن المطلوب من الأجهزة الأمنية أن تكون أقوى، وتفرض سيطرتها بشكلٍ كامل".
وتتفق الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، مع حديث أبو سنينة، مؤكدة أن عدم محاسبة من قام بالتسبب بالأحداث السابقة، التي أدت إلى مقتل المواطن أبو عيشة وما رافق من أحداث بعد مقتل المواطن باسل الجعبري، وما نتج عما يسمى بفورة الدم، كلها أسباب رئيسية شجعت على تجدد حالة الاقتتال مرة أخرى.
وطالبت الهيئة في بيان لها، باتخاذ كافة الإجراءات والتدابير اللازمة وبالسرعة الممكنة من أجل حماية حياة المواطنين وسلامتهم وصون أمنهم الشخصي والحفاظ على ممتلكاتهم.
وشددت على سرعة إنفاذ مبدأ سيادة القانون بعدل ومساواة ودون تمييز ضد من يعبث بحالة السلم الأهلي وضد من يرتكب أي فعل يحاسب عليه القانون، مهما كان وممن كان مصدره أو من أوقعه دون هوادة.
من جهتها، وصفت لمى خاطر الكاتبة والناشطة السياسية ما يجري في الخليل بـ "المأساة"، مؤكدة أن هناك من يحاول تثبيت مراكز قوى وهناك عائلات تريد فرض وجودها وهيمنتها وتمتلك أكثر عدد من المسلحين".
وقالت خاطر، "إن السلطة والمتنفذين في العائلات مسؤولين بشكل بدرجة كبيرة عما يجري في الخليل والذي ينذر بتهور الأوضاع بشكل كبير"، مشيرا إلى وجود عدة أسباب تمنع السلطة من حسم ظاهرة الفلتان في الخليل، أبرزها الخشية من دخولها في مواجهة تترتب عليها خسائر كسر هيبتها، كما أنها تريد من الفلتان إلهاء العائلات واستنزاف مسيرة المطالبة بمحاكمة قتلة المعارض نزار بنات".