تجتاح الجريمة المجتمع الفلسطيني في مناطق 48، مع نحو 100 قتيل منذ مطلع العام الحالي، بفعل منظمات الإجرام التي باتت تفرض سيطرتها على نواحٍ كثيرة في حياته.
يأتي ذلك في ظل غياب قرار سياسي من قبل المؤسسة الإسرائيلية، التي تحوم شكوك بشأن تورطها في حمام الدم، من خلال أذرعها المختلفة، أو على أقل تقدير استخفافها بكبح العنف والجريمة التي باتت تطاول الأبرياء، وليس فقط عصابات الإجرام أو المتورطين معها.
كان يوم الخميس الماضي قاسياً في الداخل الفلسطيني، إذ شهد سقوط 6 قتلى في جريمتين منفصلتين، 5 منهم في بلدة يافة الناصرة في الجليل، والثانية في منطقة المثلث، فضلاً عن وقوع إصابات بجرائم إطلاق نار في أماكن أخرى، بعضها طاولت حتى الأطفال.
وتستفيد دولة الاحتلال من الفوضى وسفك الدماء ونشر الرعب في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، من خلال إشغاله بقضايا ونزاعات داخلية، تغذّي القلق والخوف وافتقاد الأمن الفردي، فضلاً عن الصعوبات الحياتية والاقتصادية التي تدفع بعض الشرائح نحو الكسب السريع من خلال تجارة السلاح، أو اللجوء إلى منظمات الإجرام لطلب قروض "السوق السوداء".
هذه الأمور تعزل شرائح واسعة عن الهم الوطني ومكافحة التمييز والعنصرية، والمشاركة في الاحتجاجات المناهضة لممارسات الاحتلال وعدوانه في القدس المحتلة والضفة الغربية وغزة، وحتى في الداخل الفلسطيني.
دفع المجتمع العربي نحو الأسرلة
ومن مآرب المؤسسة الإسرائيلية، في شيوع العنف والجريمة، الدفع بالمجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر نحو الأسرلة، من خلال تحطيم قيمه ونجاحات جزء كبير من أبنائه في مختلف مجالات الحياة.
وتراهن المؤسسة الإسرائيلية على أن التضييق على هذا المجتمع سيدفع بأبنائه نحو الانشغال بالأمن الشخصي، وسلامة الأفراد والبيئة القريبة، وتغليب ذلك على الهم الوطني. كذلك تدفع دولة الاحتلال بمخططات لتشجيع الشباب العرب على الانخراط في سلك الشرطة، وما يُسمى بـ"الخدمة المدنية"، وتغيير قناعات المجتمع بأن الأمن والأمان يكون بالتقرب إلى المؤسسة الإسرائيلية وأجهزتها، وتجاهل الاحتلال وممارساته في أرجاء فلسطين، أو بالهجرة من البلدات العربية.
وتعززت هذه المخططات بعد انتفاضة الأقصى عام 2000، التي شهدت تظاهرات في أراضي 48 احتجاجاً على اقتحام رئيس المعارضة في حينه أريئيل شارون المسجد الأقصى بمرافقة قوات كبيرة من شرطة الاحتلال. وردّت الشرطة الإسرائيلية على التظاهرات بقتل 13 فلسطينياً في الجليل والمثلث. وفضحت تلك الأحداث، وأحداث أخرى تلتها على مر السنوات الماضية، عقلية الشرطة الحقيقية في التعامل مع فلسطينيي 48.
وتحاول الشرطة الإسرائيلية تصدير رواية عجزها وعدم امتلاكها الأدوات والموارد اللازمة لفك رموز الجرائم في المجتمع العربي، فيما تستغل منظمات الإجرام ذلك للمضي في جرائمها، وتوسيع رقعة تجارة السلاح، الذي غالباً ما يكون مصدره مخازن جيش الاحتلال.
تذرّع الشرطة بمحدودية قدراتها
والشرطة التي تتذرع بضعف الموارد ومحدودية قدراتها على الوصول إلى المجرمين في الداخل الفلسطيني تستنفر في الأحداث ذات الخلفية القومية، وتكون قادرة على الوصول إلى كل فلسطيني من أبناء الداخل، شارك في تظاهرة أو ردد شعاراً، أو كتب بعض كلمات عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
وأبرز مثال على ذلك أحداث هبّة الكرامة في مايو/ أيار 2021، حين وظّفت شرطة "إسرائيل" قدراتها، بما فيها التكنولوجية، لاعتقال الشباب العرب وتقديمهم للمحاكمات، ولا تزال تنفّذ اعتقالات، حتى بعد عامين على الأحداث التي انطلقت احتجاجاً على الانتهاكات الإسرائيلية بحق القدس والمسجد الأقصى.
ومجرد المقارنة بين نسبة نجاح الشرطة الإسرائيلية في فك الجرائم في المجتمع العربي مقابل النسبة في المجتمع الإسرائيلي تعطي مؤشراً على أن الشرطة قادرة على تحقيق نتائج ملموسة حين تريد ذلك. فقد شهدت السنوات الأربع الأخيرة نحو 732 جريمة قتل في "إسرائيل"، شكّلت الجرائم في المجتمع العربي نحو 70 في المائة منها، ومع هذا لم تتجاوز نسبة تقديم لوائح الاتهام 29 في المائة، مقابل 69 في المائة في المجتمع الإسرائيلي. ومنذ مطلع 2023 من بين 97 جريمة قتل في المجتمع العربي، فكّت الشرطة رموز 11 في المائة فقط.
في عام 2020 بلغت نسبة الجرائم التي فُكت رموزها 35 في المائة، وفي عام 2021 لم تتجاوز 24 في المائة، فيما نجد ثباتاً نسبياً في فك رموز الجرائم في المجتمع الإسرائيلي على مر السنوات يتراوح بين 70 و80 في المائة، ما يثير تساؤلات كثيرة حول هذه الفجوة. وتشجع هذه المعطيات منظمات الإجرام المنظم في المجتمع العربي على المضي في طريقها بدون رادع.
تورط المؤسسة الإسرائيلية وشرطتها
يقين المجتمع العربي الفلسطيني في مناطق الـ48 بتورط المؤسسة الإسرائيلية وشرطتها بأحداث العنف ليس وليد الصدفة، بل إن الحقائق والأرقام والقرارات تتحدث عن نفسها، ومنها الفجوة الكبيرة بين فك رموز الجرائم في المجتمع الإسرائيلي مقابل العربي.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحدث، فغياب القرار السياسي جعل منظمات الإجرام في المجتمع العربي ترفع رأسها، في حين ساهم القرار السياسي الذي اتُخذ عام 2003 بالقضاء على منظمات الإجرام في المجتمع الإسرائيلي. حينها، وعلى ضوء النزاعات المتصاعدة بين منظمات الإجرام الإسرائيلية، ومنها "أفوتبول"، "روزنشطاين"، "أبرجيل" وغيرها، صادق الكنيست الاسرائيلي عام 2003 على قانون "مكافحة منظمات الإجرام". ومع نشاط الشرطة الخاصة التي وضعت نصب أعينها القضاء على هذه المنظمات نجح الأمر. في المقابل غضت النظر عن منظمات الإجرام العربية حتى وصلت الأمور إلى مشاهد القتل اليومية.
تسريب معلومات
عدا عن السياسة العامة للشرطة والحكومة تجاه الجريمة في المجتمع العربي، شهدت السنوات الأخيرة تورط عناصر في الشرطة والنيابة بتسريب معلومات حساسة تمنح المشتبهين بالضلوع في جرائم مخارج تسهم في تخفيف أحكامهم أو حتى إطلاق سراحهم.
مثال على ذلك، اعتقال الشرطة في إبريل/ نيسان 2022 شرطياً في وحدة النخبة "لاهف 433"، بشبهة تسريب معلومات لمنظمات إجرامية. وفي الرابع والعشرين من الشهر نفسه، نشر موقع "يديعوت أحرونوت" مقابلة مع مصدر في ذات الوحدة لم يسمه، تحدث عن تخطي بعض أفراد الشرطة "الخطوط الحمراء"، بنقل معلومات للمشتبهين مقابل مبالغ مالية قد تتراوح بين 5000 و10000 شيكل (1400 ـ 2800 دولار تقريباً) عن كل معلومة.
وفي 30 مايو/ أيار 2023، كشفت قناة "كان 11" التابعة لهيئة البث الإسرائيلي عن توجّه مسؤولين رفيعين في الشرطة الإسرائيلية إلى النائب العام عميت آيسمان، بشأن شبهات حول تورط نائبين عامين، أحدهما مدعٍ بالحق المدني والآخر في قضايا جنائية، بتسريب "معلومات حساسة" من تحقيقات جارية، لمنظمات إجرام خطيرة، بينها عربية.
قبل ذلك، وتحديداً في 30 يونيو/ حزيران 2021، نقلت القناة 12 الإسرائيلية عن مصدر رفيع في الشرطة لم تسمه قوله، خلال مناقشات في مقر الشرطة القطري، بحضور القائد العام للشرطة كوبي شبتاي ووزير الأمن الداخلي وقتئذ عومير بارليف، إن "المجرمين الذين يقودون الجريمة الخطيرة في المجتمع العربي هم في معظمهم متعاونون مع جهاز الأمن العام (الشاباك)".
ونقلت القناة 13 في الفترة نفسها تقريباً اتهام الشرطة لـ"الشاباك" بالتواطؤ مع عصابات الإجرام، وأنها "لا تستطيع اعتقال عدد من المجرمين، لأنهم يخدمون الشاباك".
وقد يشير هذا الكلام إلى وجود علاقة بين خدمة المجرمين للأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية عبر مدّها بمعلومات ذات طابع أمني، مقابل منحها مساحةً من حرية الحركة، للمضي في جرائمها التي تسعى من خلالها لبسط نفوذها على مناطق معيّنة ومصالح تجارية وتحقيق مكاسب مالية بقوة السلاح، كما تساهم في إضعاف المجتمع العربي اقتصادياً وليس اجتماعياً فقط.
وفي إبريل/ نيسان الماضي نشرت القناة 12 الإسرائيلية تصريحات مسرّبة للقائد العام لشرطة "إسرائيل" كوبي شبتاي، خلال اجتماعه بوزير الأمن القومي إيتمار بن غفير لبحث الجريمة في المجتمع العربي وإقامة "الحرس القومي" الذي يطالب به بن غفير. وجاء على لسان شبتاي في حينه ما يحمل دلالات على طريقة تعامل الشرطة مع الجرائم في المجتمع العربي وعقليتها: "لا يوجد ما يمكن فعله. إنهم يقتلون أحدهم الآخر. هذه طبيعتهم. هذه هي عقلية العرب"، كما قال شبتاي.
"الشاباك" والوزير العنصري
في الفترة الحالية التي تشهد تصاعداً في الجريمة في المجتمع العربي منذ بداية العام الحالي، أعلن رئيس قسم القضاء على الجريمة في المجتمع العربي (وحدة "سيف") ناتان بوزانا، استقالته قبل أيام. واتهم بوزانا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بأنه لم يعمل على مكافحة الجريمة في المجتمع العربي ولم يزر الوحدة أبداً.
ويحمل بن غفير، رئيس حزب "القوة اليهودية"، فكراً عنصرياً، ما يثير شكوك المجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخير إزاء نيّته محاربة الجريمة، على الرغم من تصريحاته المتكررة، وآخرها مساء الخميس الماضي، عند زيارته موقع جريمة إطلاق النار التي أودت بحياة 5 أشخاص في قرية يافة الناصرة في الجليل. وسارع بن غفير للمطالبة بإدخال "الشاباك" إلى المجتمع العربي، بذريعة أنه الحل لمكافحة العنف والجريمة فيه. كما أدلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتصريحات مشابهة، من خلال فيديو عممه على وسائل الإعلام عقب الجريمة.
وبن غفير يطالب بإقامة "الحرس القومي" لتوظيفه بالأساس ضد العرب في البلدات الساحلية المختلطة، لدى وقوع أحداث على غرار هبة الكرامة في مايو 2021 وضد المجتمع العربي عامة.
مقابل ذلك، حذرت لجنة المتابعة العليا لفلسطينيي 48 في بيان الخميس الماضي من "دعوات من قادة الحكومة المتورطين في هذه الظاهرة الخطيرة (الجريمة)، لإدخال جهاز الشاباك إلى مجتمعنا تحت غطاء محاربة الجريمة، فالأدوات القانونية موجودة لو أرادت الحكومة وأذرعها اجتثاث ظاهرة الجريمة كليّاً من مجتمعنا". وحمّلت "المؤسسة الإسرائيلية كامل المسؤولية عن الاستفحال المفزع للجريمة في مجتمعنا بوصفها الجهة الرسمية التي تتحمل المسؤولية الرسمية وصاحبة القدرة على اجتثاث هذه الظاهرة الرهيبة".