لا يقاس الفارق الزمني للإعلان عن تبني العمليات وضربات المقاومة في الضفة المحتلة، بما لديها من حسابات وإستراتيجيات وخطط تعمل وفقها بكل ثقة، سواء كانت عمليات فردية أو منظمة، وهذا هو السر في نجاحها، بمدى الخوف أو الخشية من رد الفعل الصهيوني، بقدر ما أنه أصبح هاجسًا نفسيًا مرعبًا "على هيئة سلاح نفسي فتاك"، وكلما زادت المدة الزمنية كلما زادت التعقيدات الأمنية والتخبطات السياسية الصهيونية، لعدم وصولها إلى المعلومات الصحيحة حول ملابسات العملية ومن يقف وراءها، بالرغم من كل ما يملكه الاحتلال من استخبارات على الأرض وفي الجو، وبالرغم من الإمكانيات التكنولوجية العسكرية الضخمة التي بحوزته، فهو إلى الآن -حتى كتابتي هذه الأسطر- لم يتوصل إلى منفذ عملية حوارة (للأسبوع الثاني)، التي أسفرت عن قتل مستوطنين في 19 أغسطس/آب الجاري، وكان يجهل الفصيل المسؤول المباشر عن العملية، ما يزيد في حالة الاستنزاف الصهيوني، وربما اكتفت الحركة بإظهار ضعف وعجز الاحتلال أمنيًا واستخباراتيًا.
إن نجاح العمليات الفدائية في الضفة دليل قاطع على فشل خطط الاحتلال الأمنية والعسكرية التي عول عليها كثيرًا لإيقافها، وكل ما يقال عن "السور الواقي"، و"جز العشب"، و"كي الوعي"، و"التنسيق الأمني" وغيرهم، فلم تفلح جميعها في تحقيق الأمن لمستوطنيه في الضفة، بسبب استمرار وتصاعد أعمال المقاومة، وبحسب مركز المعلومات الفلسطيني "معطى" إذ أفاد بوقوع 215 عملًا مقاومًا، في المدة ما بين 18-08-2023 حتى 24-08-2023، منها 18 عملية إطلاق نار، وعملية طعن، ناهيك عن عدد العمليات الفدائية منذ بداية العام، إذ ضربت المقاومة الاحتلال بـ 6 عمليات نوعية أوجعته في الضفة الغربية والقدس، افتتحها الشهيد خيري علقم في القدس أسفرت عن 7 قتلى و12 إصابة في صفوف المستوطنين، ثم عملية الشهيدين القساميين مهند شحادة وخالد صباح، أسفرت عمليتهما عن 4 قتلى و4 جرحى في صفوف الاحتلال، مثلما أوقعت عملية الشهيدين القساميين حسن قطناني ومعاذ المصري في منطقة الأغوار، التي أدت أيضًا إلى 3 قتلى صهاينة، مرورًا بعملية الشهيد القسامي عبد الفتاح خروشة، باكورة الأعمال البطولية في حوارة، وأسفرت عن مقتل مستوطنَين، وصولًا إلى عملية حوارة الأخيرة التي انسحب منفذها بسلام، أسفرت عن قتل مستوطنَين، وأيضًا عملية الخليل الأخيرة التي أسفرت عن مقتل مستوطن وجرح آخر، والحبل على الجرار، فمثل هذا النوع من العمليات يجسّد صورة متكاملة للمشهد المقاوم في الضفة، ومعناه أن ثمنًا باهظًا وكبيرًا بانتظار الاحتلال ومستوطنيه.
لعل تأخير إعلان حركة حماس مسؤوليتها عن عملية حوارة تصب في خانة إجراءاتها الأمنية التي تتفنن بحفظها وسريتها، وهذا أسلوب معروف لدى الحركة في كل عملها المقاوم، عملًا بالحديث الشريف: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالسر والكتمان"، مما لا يدعو للشك أنه أحد أهم شعار ديمومتها وقوتها، لكن ربما أرادت الحركة تأخير أو تأجيل الأمر إلى وقت معلوم تزيد من رصيد قوتها الردعية لتهديدات الاحتلال الأخيرة بتفعيله سياسة الاغتيالات ضد شخصيات وقادة فلسطينيين، ردًا على العمليات الفدائية ضد المستوطنين، فردت الحركة بإعلان مسؤوليتها عن عملية حوارة، في إشارة واضحة بتحديها للاحتلال، وقد جاءت تصريحات نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، الشيخ صالح العاروري، في لقاء له على قناة الأقصى الخميس الماضي بقوله: "تهديدات الاحتلال بالاغتيالات لا تخيفنا"، وقوله: "لا مناص من مقاومة شاملة في الضفة المحتلة تنتهي بطرد الاحتلال منها كما طرد مدحورًا من غزة"، جاءت لتؤكد من جديد قوة حركة حماس في الساحة الضفاوية بدعمها المطلق للمقاومة للدفاع عن القدس والمقدسات على رأسها المسجد الأقصى المبارك، الذي يشهد اقتحامات يومية من المستوطنين بحماية قوات الاحتلال تمهيدًا لتقسيمه مكانيًا وزمانيًا.
المتابع للمشهد يدرك أن التصريحات الأخيرة من مسؤولي حركة حماس تأخذ على محمل الجد بعدم إغفال قضية المسجد الأقصى بأنه خط أحمر لا تسمح للاحتلال وقطعان مستوطنيه بانتهاك حرمته، وبأن استمرار اعتداءاتهم وتدنيس حرمته، هو لعب بالنار وسيدفع الأمور نحو الانفجار، لكونها باتت مهيّأة لذلك، وقد شاهد الاحتلال بأمّ عينيه في الأيام الماضية صواريخ القسام وهي تنطلق من غزة في عرض البحر استعدادًا للمعركة القادمة على غرار معركة "سيف القدس"، إذ إن حكومة الاحتلال الإسرائيلي تسابق الزمن لأجل حسم الوضع في المدينة المقدسة بناء على توصيات ما سمي باللجنة "اللوائية للتنظيم والبناء" التابعة لوزارة داخلية الاحتلال بتطبيق خطة "ترسيخ الوجود اليهودي" في القدس المحتلة، عبر تعزيز الاستيطان والمستوطنين، وتغيير معالمها وهويتها الإسلامية العربية، وصبغها بطابع يهودي بحت لا يمت للحقيقة بأي صلة.
يعلم الاحتلال أن حركة حماس تقول وتفعل ولا تتردد في الرد على جرائمه حتى ولو بعد حين، والدروس السابقة كفيلة بأن تكون عظة يتعظ بها الاحتلال لتجنب مواجهة شاملة تنطلق من كل حدب وصوب دفاعًا عن الأقصى أولًا، والرد على أي جريمة اعتداء بحق الشعب الفلسطيني والمساس بقياداته، فقد جرب رد حركة حماس عندما اغتال شخصيات قيادية في الحركة وهم: الشهيد الشيخ أحمد ياسين، والشهيد القائد عبد العزيز الرنتيسي، والشهيد إسماعيل أبو شنب، والشهيد صلاح شحادة، والشهيد يحيى عياش وغيرهم من الشهداء الأبرار، بأن لكل واحد كان هناك الرد المزلزل الذي ضرب عمق الاحتلال وخلخل أركانه ونسف قواعده، إذا الاغتيالات لا تريح الاحتلال كما يتصور، ولا تضعف حركة حماس ولا يفت من عضد المقاومة، بل تزداد قوة وصلابةً وعنفوانًا.