يوافق الأحد، الخامس عشر من يناير، الذكرى الرابعة عشرة لاغتيال وزير الداخلية والأمن الوطني في الحكومة الفلسطينية العاشرة الشهيد سعيد صيام، الذي ارتقى إثر عملية اغتيال خلال العدوان الإسرائيلي على غزة 2008-2009، بعد أن أعاد تشكيل الوزارة وأجهزتها على أسس مهنية، وعقيدة وطنية، وأرسى منظومة أمنٍ وأمانٍ طوَت مرحلةً غابرةً من الفوضى والفلتان.
أقلُّ من ثلاث سنوات قضاها الوزير صيام على رأس وزارة الداخلية في قطاع غزة، كانت - رغم قصر مدتها - كفيلةً بتأسيس نواة تلك المنظومة التي شهد بها العدو قبل الصديق، ولا تزال ماضية على ذات الطريق، تحفظ الأمن والأمان، وتحمي الجبهة الداخلية، ويخوض فرسانها تحدياً تلو الآخر يقدمون فيه أعزّ ما يملكون، من جهد وعرق وأنفُس ودماء.
هذه الحالة المُلهمة، لم تكن لتتأتى دون قيادة استثنائية تجمع بين جرأة القرار، وحكمة التنفيذ، وهو ما تجسّد في شخصية الوزير سعيد صيام، ورفاق دربه في قيادة وزارة الداخلية والأمن الوطني، الذين أخذوا على عاتقهم تصويب المسار وقيادة الدفة إلى برّ الأمان.
محطات تاريخية
انحدر سعيد محمد شعبان صيام، الذي وُلد في يوليو 1959م، من عائلة لاجئة من قرية الجورة قرب مدينة عسقلان المحتلة، وسكن مخيم الشاطئ للاجئين غربي مدينة غزة، الذي تلقى فيه تعليمه الأساسي وتفوق في دراسته، ثم التحق بدار المعلمين في رام الله مطلع الثمانينيات، ونال شهادة الدبلوم في تدريس العلوم والرياضيات.
بعد عودته إلى غزة، حصل "صيام" على شهادة البكالوريوس في التربية الإسلامية، وعُيّن مُدرساً في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" حتى نهاية عام 2003، إلا أن طبيعة شخصيته وصفاته مكنّته من لعب دور نقابي ومجتمعي لافت، فقد تولى رئاسة لجنة قطاع المعلمين بوكالة الغوث، وشغل عضوية اتحاد الموظفين بالوكالة، فضلاً عن عضوية مجلس أمناء الجامعة الإسلامية، والهيئة التأسيسية لمركز أبحاث المستقبل.
إلى جانب ذلك كله، تميّز سعيد صيام في نشاطه الدعوي، كما عُرف كأحد نشطاء حركة المقاومة الإسلامية "حماس" منذ تأسيسها عام 1987، حيث اعتقله الاحتلال الإسرائيلي إدارياً أربع مرات على خلفية نشاطه السياسي، وكان من بين المُبعدين من قادة الحركة إلى مخيم مرج الزهور في جنوب لبنان شتاء عام 1992.
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، برزَ الشهيد صيام كأحد قادة "حماس" السياسيين، فقد كان ممثلاً عن الحركة في لجنة المتابعة العليا للفصائل الفلسطينية، وشغل عضوية مكتبها السياسي (أعلى هيئة تنفيذية)، وكان مسئولاً عن دائرة العلاقات الخارجية فيها.
في وزارة الداخلية
خاضت "حماس" سباق الانتخابات التشريعية في يناير 2006، وكان الشهيد "صيام" ضمن المرشحين على قائمة "التغيير والإصلاح" التي قدمتها الحركة، وحصل في دائرة محافظة غزة على أعلى نسبة تصويت في الضفة والقطاع.
عقب تشكيل الحكومة الفلسطينية العاشرة عام 2006 برئاسة إسماعيل هنية، كُلف "صيام" بالحقيبة الأصعب، وزارة الداخلية، ليخوض تحديات هائلة في فترة حساسة، ويبدأ مرحلة جديدة من إعادة بناء الوزارة، لتمكينها من القيام بالدور المنوط بها في حفظ الأمن المفقود نتيجة غياب بوصلة الأجهزة الأمنية وتغولها على المواطنين.
وبرغم إشعال الفلتان الأمني وفوضى السلاح من قبل بعض المتنفذين في الأجهزة الأمنية التي تمردت على الحكومة سعياً لإفشالها، كان القرار الجريء من القائد صيام بتأسيس "القوة التنفيذية" لإسناد الأجهزة الأمنية في بسط الأمن، وهو ما وضع حداً لحالة الفلتان، وقاد الحالة الأمنية لمرحلة مستقرة حُرم منها قطاع غزة سنواتٍ طويلة.
أكمل الوزير "صيام" مسيرته المهنية في وزارة الداخلية، وقاد مسيرة إصلاح شاملة طالت جميع مكونات الوزارة، واستحدث عدداً من الأجهزة والهيئات، بما ساهم في تثبيت دعائم الوزارة، وترسيخ حالة الأمن والاستقرار.
في السابع والعشرين من ديسمبر 2008، شنّ الاحتلال الإسرائيلي حرباً واسعة ضد قطاع غزة، استهلّها بتدمير جميع المقار الأمنية والشرطية التابعة لوزارة الداخلية في قصفٍ مُتزامنٍ، واستهداف المئات من ضباط ومنتسبي الوزارة، في مسعى واضحٍ لزعزعة الاستقرار وإثارة الفوضى في القطاع، وبرغم ذلك، لم يتخلّف الشهيد "صيام" عن مهامه في قيادة الوزارة، التي استطاعت النهوض من بين الركام، ومواصلة أداء مهامها برغم تدمير مقارها واستشهاد المئات من أبنائها وقادتها، لتحافظ على الجبهة الداخلية وتحمي ظهر المقاومة طيلة العدوان الذي استمر 21 يوماً.
ختامٌ بالشهادة
لم ترُق هذه الحالة للاحتلال الإسرائيلي، الذي أغاظه التلاحم بين الشعب الفلسطيني ومقاومته وأجهزته الأمنية، في مشهد صمود أسطوري أمام العدوان الغاشم، ليُقدِم في الأيام الأخيرة للعدوان على اغتيال الوزير سعيد صيام وهو على رأس عمله في قيادة الوزارة، حيث استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية منزل شقيق الوزير سعيد صيام أثناء تواجده فيه، ليرتقي شهيداً هو ونجله محمد، وشقيقه إياد وزوجته، ويختم مشوار حياته الزاخر بالبذل والعطاء، وخدمة شعبه ووطنه.
رحل الوزير صيام شهيداً، وتولى الراية من بعده رجالٌ أوفياء للفكرة والمبدأ، وواصلت وزارة الداخلية واجبها تجاه شعبها، وشيّدت مؤسسةً أمنية وطنية شامخة، أثبتت في كلّ مرة قدرتها على مواجهة التحديات، وحفظ أمن شعبها وتعزيز سلمه الأهلي والمجتمعي.