تقرير- عبد الحميد رزق
عبر قصاصات ورقية، أو تسجيلات صوتية قصيرة، أو مقاطع مصورة، يترك الشهداء الفلسطينيين وصاياهم التي تظهر للعلن فور ارتقائهم، ليكون لها الأثر المعنوي الكبير في أذهان وقلوب ذويهم ومحبيهم، ودافعًا قويًا لمن خلفهم في مواصلة الجهاد والقتال ضد العدو الذي احتل الأرض وهتك العرض.
وعلى الرغم من أن غالبية تلك الوصايا قليلة الحروف والكلمات، إلا أنها تحمل في طياتها معاني عظيمة، ووصايا خالدة، تجد طريقها إلى قلوب وعقول من يطلع عليها، كيف لا وهي صادرة عن أشخاص ضحوا للتو، برواحهم فداء للدين والوطن.
أول وصية
وسجل الاستشهادي القسامي صالح عبد الرحيم صوي أول وصية مصورة، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 1994، قبيْل تنفيذه عملية استشهاديَّة، ثم توالت بعدها وصايا الشهداء، إما مكتوبة، أو مصورة، أو عبر تسجيل صوتي، كان آخرها وصية الشهيد المقدسي عدي التميمي منفذ عمليتي حاجز شعفاط، ومستوطنة (معاليه أدوميم) شرق مدينة القدس المحتلة، والتي تركت أثرًا عميقًا في نفوس الأحرار في كل مكان.
على قصاصة ورقية كتب التميمي وصيته: "أنا المطارد عدي التميمي من مخيم الشهداء شعفاط، عمليتي في حاجز شعفاط كانت نقطة في بحر النضال الهادر، أعلم أنني سأستشهد عاجلاً أم آجلاً، وأعلم أنني لم أحرر فلسطين بالعملية، ولكن نفذتها، واضعًا هدفًا أساسيًا أن ثمرة العملية مئات من الشباب ليحملوا البندقية من بعدي".
انتشرت وصية التميمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، لمى حملته في طياتها من المعاني العظيمة، فيما كان لها وقع عظيم على نفوس الشباب الثائر الذي يقارع جنود الاحتلال ليل نهار على امتداد مخيمات ومدن وقرى الضفة الغربية، ومدينة القدس المحتلة.
"لا تتركوا الباردوة"
"أنا استشهدت يا شباب.. أنا بحب أمي.. حافظوا على الوطن من بعدي.. وبوصيكم "بحياة عرضكم" ما حدا يترك البارودة .. أنا هيني محاصر ورايح استشهد"، كانت هذه وصية الشهيد إبراهيم النابلسي، والتي سجلها في اخر لحظاته بعدما ارتقى خلال اشتباك مع قوة صهيونية كبيرة حاصرته في مدينة نابلس، في 9 آب/أغسطس، الماضي.
وصلت رسالة النابلسي إلى مسامع رفاقه، وعلى الفور ترجموها واقعًا عمليًا، فمنذ لحظة استشهاده حتى يومنا هذا، لم تتوقف بنادق المقاومين في نابلس البطولة عن إمطار جنود الاحتلال بالنار واللظى.
وكشفت كتائب القسام عن رسالة خاصة أرسلها الشهيد النابلسي إليها، وجّه فيها تحياته لكتائب القسام في غزة وكل الضفة، وثمن جهودهم في دعمه خلال فترة ما قبل استشهاده.
واختتم رسالته بالهتاف الوطني الشهير: "حط السيف قبال السيف، احنا رجال محمد ضيف".
وجدت أجوبتي
وفي السادس من مارس/آذار 2017، استشهد "المثقف المشتبك" باسل الأعرج، خلال اشتباك مع قوة إسرائيلية خاصة حاصرته في مخيم قدورة وسط مدينة رام الله، قاتل باسل حتى آخر رصاصة، وبعد ارتقاءه شهيدًا عثر على وصيته بجواره.
وتداول الفلسطينيون وصية باسل الموجزة، والتي قال فيها: "تحية العروبة والوطن والتحرير، أما بعد فإن كنت تقرأ هذا فهذا يعني أني قد مِتُّ، وقد صعدت الروح إلى خالقها، وأدعو الله أن ألاقيه بقلب سليم مقبل غير مدبر بإخلاص بلا ذرة رياء".
وأضاف الشهيد الأعرج في وصيته: "لكم من الصعب أن تكتب وصيتك، ومنذ سنين انقضت وأنا أتأمل كل وصايا الشهداء التي كتبوها، لطالما حيرتني تلك الوصايا، مختصرة سريعة مختزلة فاقدة للبلاغة ولا تشفي غليلنا في البحث عن أسئلة الشهادة.. وأنا الآن أسير إلى حتفي راضيا مقتنعا وجدت أجوبتي، يا ويلي ما أحمقني! وهل هناك أبلغ وأفصح من فعل الشهيد. وكان من المفروض أن أكتب هذا قبل شهورٍ طويلة، إلا أن ما أقعدني عن هذا هو أن هذا سؤالكم أنتم الأحياء، فلماذا أجيب أنا عنكم، فلتبحثوا أنتم… أما نحن أهل القبور فلا نبحث إلا عن رحمة الله".
قلق إسرائيلي
وعلى الرغم من ارتقاء أصحاب الوصايا، الذين كانت أجهزة أمن ومخابرات الاحتلال تلاحقهم ليل نهار، إلا أن وصاياهم هي الأخرى باتت تشكل مصدر قلقل للاحتلال، فهذا كاتب إسرائيلي في صحيفة "إسرائيل اليوم"، يدعى نداف شرغاي، يعلق قائلًا: ذكر أنّ ظاهرة "الوصايا" التي يكتبها المنفذون قبيل لحظات من خروجهم للتنفيذ تزايدت الفترة الماضية.
ويتابع نداف، قراءة تلك الوصايا من قبل الشبان الفلسطينيين، يجعل أجهزة الأمن الإسرائيلية تخرج بانطباع مفاده أنهم يعتبرون أنفسهم (شهداء على قائمة الانتظار)".
وتابع " كما أنه من شأنها حث رفاقهم على إعداد أنفسهم لأفعال مماثلة في المستقبل، وبالتالي فإن مراجعة عشرات الوصايا لا تظهر دوافع المنفذين فحسب، بل تظهر أيضًا حاجتهم لمشاركة إرثهم مع عامة الفلسطينيين، واكتساب الشرعية لأفعالهم".
وتبقى وصايا الشهداء حاضرة وراسخة في عقول وقلوب أبناء الشعب الفلسطيني، يستلهمون منها معاني الوفاء والتضحية والفداء لإكمال مسيرة التحرير والعودة إلى فلسطين.