تشهد القدس في الأشهر الأخيرة نشاطاً ملموساً للمؤسّسات التركيّة، والجمعيّات الفلسطينيّة المدعومة من الأتراك، ممّا أدّى إلى انتشار العلم التركيّ والمأكولات التركيّة ونشر صور رجب طيّب أردوغان في أحياء المدينة، بالتزامن مع تراجع الأردن عن اتّفاقه مع إسرائيل بتركيب كاميرات المراقبة في المسجد الأقصى بسبب الضغوط الفلسطينيّة، ممّا دفع بعض المقدسيّين إلى الحديث عن وجود تقدّم حقيقيّ للأتراك في مدينتهم على حساب التراجع الأردنيّ، وهو ما اتّضح في استقبالهم المسؤولين من البلدين، ترحيباً بالأتراك وفتوراً بالأردنيّين.
وشكّل تراجع الأردن عن اتّفاقه مع إسرائيل بتركيب كاميرات تصوير في ساحات المسجد الأقصى لضبط الوضع الأمنيّ في الحرم القدسيّ، علامة واضحة على تراجع الدور الأردنيّ في القدس، في ضوء الاحتجاجات الفلسطينيّة على هذا الاتّفاق بين عمّان وتلّ أبيب، من دون التشاور معهم.
في الوقت ذاته، يتزايد النشاط التركيّ الخاص بالقدس، وتمثل آخر مشاهده بتنظيم مظاهرة كبيرة بمدينة اسطنبول التركية، بعنوان "شكرا تركيا" لدورها في حماية المقدسات الإسلامية بالقدس، لدورها في رفع مستوى المساعدات الماليّة والعينيّة للمقدسيّين، والقيام بسلسلة مشاريع خيريّة وتنمويّة في المدينة، تقترب قيمتها التقديرية من عشرات ملايين الدولارات، مما قد يشير إلى تناسب عكسيّ للدورين في القدس، تقدّم تركيّ وتراجع أردنيّ.
الدعم التركيّ للمدينة المقدّسة ساهم في إعمارها بشكل عامّ، وعمل على تخفيف معاناة المقدسيّين عبر تمويل مشاريع إنسانيّة واجتماعيّة، والمقدسيّون يشعرون بالامتنان لتركيا، على المساعدات المقدّمة إلى المدينة، في ذات الوقت الذي يرون فيه تقصيرا عربيّا واضحا في دعمها، بسبب مشاكلهم الداخليّة وصراعاتهم الدمويّة، ممّا أدّى لإهمالهم المدينة.
لعلّ إجراء مقارنة بين كيفيّة استقبال المقدسيّين للمسؤولين الأردنيّين والأتراك حين يزورون مدينتهم يعطي إشارة واضحة لزيادة الترحيب المقدسي بالأتراك، وتراجع ترحيبهم بالأردنيّين، وقد يحمل إشارة ضمنية للمكانة الكبيرة التي يكنها المقدسيون لتركيا، بسبب الخدمات التي تقدمها للمدينة المقدسة وأهلها.
تنخرط بعض المؤسّسات التركيّة بدعم القدس، وتقديم المشاريع الخيريّة للمقدسيّين، مثل وكالة تيكا، وجمعية مشعلة، ومؤسسة قناديل، حيث يمكن الحديث عن سببين لزيادة النفوذ التركيّ في القدس، أوّلهما وجود مشاعر تركيّة إسلاميّة جارفة تجاه إخوانهم من المسلمين، تدفع الأتراك لنصرة المسجد الأقصى، وثانيهما وجود طموحات للقادة الأتراك للعب دور إقليميّ على الطراز العثمانيّ في العالم العربيّ والإسلاميّ، مما قد يفسّر زيادة الدعم التركيّ عموماً في الأراضي الفلسطينيّة بصفة عامّة.
تنافس الأتراك والأردنيّين في القدس واضح جدّاً، رغم أنهما لا يتحدثان به بصورة علنية، لكن المساعدات التركيّة، ودعم السياحة الدينيّة، يشير لزيادة نفوذ تركيا في القدس لكونها دولة قويّة، مقابل تراجع أردنيّ ملموس فيها، كما أنّ تنافسهما في القدس له بعد اقتصاديّ يتمثّل في رغبة عمّان في أن يأتي السيّاح الأتراك إليها رأساً، ثمّ يذهبوا إلى القدس برّاً، ممّا سيأتي على خزينتها بأموال السيّاح، بدل ذهابهم من مطار أنقرة إلى مطار بن غوريون الإسرائيليّ، من دون المرور بالأردن.
تتواصل زيارة الوفود التركية للقدس، وكان آخرها وزير شؤون القدس الفلسطيني عدنان الحسيني في أبريل 2016 مع وفد من الهلال الأخضر التركي الذي يزور القدس، للاطلاع على مجمل القضايا المقدسية، وهو ما يشير لتزايد نفوذ تركيا في القدس، مما دفع مواقع إخبارية أردنيّة للقول أنّه لا بدّ من التنبّه لاتّساع دور تركيا في المدينة، ومحاسبة من يسعى لتقويض رعاية الأردن للمسجد الأقصى، متّهمة تركيا باستمالة بعض القوى الاجتماعيّة والسياسيّة والعشائريّة في القدس، تمهيداً إلى إعادة مجدها العثمانيّ عبر بوّابة القدس.
يبدو واضحا أنّ تنافس الأردن وتركيا في القدس ليس خافياً، لكنّهما يبقيانه مكتوماً حتّى لا تتوتّر علاقاتهما، ومن الواضح أنّ لأنقرة سياسة بزيادة نفوذها في القدس، وإفساح المجال أمام مواطنيها للقيام بزيارات مكثّفة إلى المسجد الأقصى، وتقديم منح دراسيّة لأعداد غفيرة من المقدسيّين لاستكمال دراساتهم في تركيا، التي ترسل مسئوليها إلى القدس دون التنسيق الدائم مع عمّان، ممّا يغضب الأخيرة، لأن الأردن ترى نفسها وصية على القدس، رغم أنه لا يوجد اتفاق بينهما يلزم تركيا بإبلاغ الأردن مسبقاً بزيارة مسئوليها للقدس، ويبدو أنّ إسرائيل تتعاطى مع زيادة نفوذ تركيا في القدس على أنّها دولة قويّة، فيما لا يبدو الأردن بالقوّة ذاتها.
مظاهر القوة التركية تتمثل في اقتصادها المتنامي على حساب الوضع المعيشي الصعب للأردن، كما أن إسرائيل معنية بأن تحسن علاقتها مع أنقرة، مما يجعلها تتساهل في زيادة نفوذها في المدينة المقدسة، رغم أن إسرائيل لا تشعر بالارتياح الكثير تجاه انتشار الأعلام التركية وصور أردوغان في شوارع القدس.