"هذه أوّل مرة سيرتفع فيها علم فلسطيني على أرض فلسطينية محرّرة، هذا مكسب معناه أن شعبنا ثُبّت على الخريطة السياسية والجغرافية في النظام العالمي الجديد (..) أقول إلى أهلي وربعي، إلى أحبائي ورفاقي، إلى كل المجاهدين والمناضلين، أطفالاً ونساءً ورجالاً، نحن كما قلت لكم على موعد مع النصر، نحن على موعد مع الفجر".
الكلمات أعلاه؛ هي للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، نقلها عنه الصحفي والإعلامي التونسي الشهير، محمد كريشان، في لقاء أجراه معه من على الطائرة التي أقلّته من تونس إلى واشنطن للاحتفال بتوقيع ما صار يُعرف في الأدبيات السياسية بـ"اتفاقية أوسلو"، وذكّر بها كريشان أخيراً في مقالة له، حملت عنوان "آه لو جُمّد الاستيطان على الأقلّ!"، نشرتها "القدس العربي".
يمكن الوقوف عند ثلاث كلمات في النصّ المأخوذ عن الرئيس عرفات، تتداخل في صورة واحدة، وهي: (١) رفع العلم الفلسطيني لأوّل مرّة، (٢) على أرض فلسطينية محرّرة، (٣) لنكون على موعد مع النصر. الصورة اليوم، بعد ثلاثين سنة على هذه الكلمات مناقضة لمضمونها تماماً، فالشيء الوحيد الباقي منها أنّ العلم الفلسطيني يُرفع بالفعل على الأرض الفلسطينية، لكنّ الأرض ليست محرّرة، ولم نكن بهذه الاتفاقية على موعد مع الفجر، أو مع النصر، فبعد سبع سنوات فقط على هذه الكلمات، اكتشف الفلسطينيون المأساة المظلمة، التي آلت إليها هذه الاتفاقية، فانفجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
ما ينبغي التذكير به، بعد هذه العقود الثلاثة، أنّ العلم الفلسطيني كان يرفع بالفعل على الأرض الفلسطينية، رغماً عن الاحتلال. فلسطينيون أطلق عليهم الرصاص لأنّهم كانوا يرفعون العلم؛ يرسمونه على الجدران، ويحملونه في المظاهرات والمسيرات، وعلى أعمدة الكهرباء، وفوق المآذن. كنت طفلاً في الصفوف الابتدائية، وأرسم مع زملائي العلم على دفاترنا المدرسية.
كان العلم الفلسطيني لا يفارق القرى والمدن والمخيمات الفلسطينية، ويستنزف جيش الاحتلال، وهو يقتحم تلك المناطق لإنزال العلم من على عمود أو مئذنة. الذي اختلف اليوم أنّ الجيش كفّ عن اقتحام تلك المناطق لإنزال العلم، ولكنه يقتحمها للاعتقال والقتل والاغتيال وفرض أوامر الإغلاق على بعض المؤسّسات. كنّا أكثر حرّيّة ونحن نرفع العلم قبل توقيع اتفاقية أوسلو، تماماً كما كانت أرضنا أقلّ مستوطنات وحواجز، فكنّا أكثر حرّيّة في التنقل والحركة فيها!
لا يمكن التقليل من تلك الرومانسيات التي جرت بها، في ذلك الوقت، تغطية اتفاق لم يقم في الأساس على نصر فلسطيني، بل على قبول نهائي بالواقعة الإسرائيلية في بلادنا، ما يعني بالضرورة أن أساساً كهذا لن يفضيَ لا إلى فجر ولا إلى نصر. وليس ثمّة حاجة بعد هذه العقود، للاستدلال على ذلك، لأنّ الواقع الماثل اليوم يغني عن أيّ حجاج في صواب الموقف القائل باستحالة تحقيق سلام تعاقديّ؛ ينطوي في جوهره على إقرار ضمنيّ بالهزيمة لصالح العدوّ المنتصر، فكيف إذا كان أصل العقد لا يتحدث عن شيء من حقوق الفلسطينيين، ولكنّه ينصّ على بقاء العدوّ في الأراضي الفلسطينية التي احتلّها في العام 1967، في إطار صيغة سُمِّيت "إعادة الانتشار" يبقى فيها العدوّ في معسكراته ومستوطناته وحواجزه، مع إحلال قوّات فلسطينية مكانه في تجمعات الفلسطينيين الكبرى!
مرّة أخرى وبقطع النظر عن هذه الحقائق التي كانت تعني بالضرورة، أنّ تلك الاتفاقية لم تضمن للفلسطينيين أرضاً محرّرة يرفعون علمهم عليها بحرّيّة، فإنّ حمل الفلسطيني لوثيقة سفر تمكن تسميتها مجازاً بـ"جواز سفر"، ووجود قوات محلّيّة داخل تجمعات الفلسطينيين، وعودة عدد من الفدائيين بسلاحهم وزيّهم العسكريّ من معسكرات اللجوء إلى بلدات فلسطينية، ورفع العلم الفلسطيني، وبثّ النشيد الوطني، وامتلاك الفلسطينيين لإذاعة ومحطة تلفزيونية... رومانسيات كانت بالغة الأثر في حينه، للقول إنّ ذلك الاتفاق مثّل إنجازاً للفلسطينيين.
ظلّ الفلسطيني ينظر باستمرار لاختلاف أوضاعه عن محيطه العربي، ويتشرّب مرارة لجوئه إلى بلاد مثّلت قروناً طويلة امتداداً لفضائه الاجتماعي، ثمّ وجد نفسه فيها بعد النكبة، غريباً منبوذاً، لاجئاً أم مقاوماً. وهذه المفارقة الفلسطينية حفرت عميقاً في وعي قيادة الحركة الوطنية ما بعد النكبة، لا سيما تلك القيادة التي نشأت على أساس "القُطرية الفلسطينية". وبعد ذلك، كان ثمّة معنى للمناضلين من داخل الأرض المحتلة أن يرفعوا علمهم، الذي كانوا يواجهون الرصاص لأجل رفعه، ويبثّوا نشيدهم ويملكوا إذاعتهم، بعد نضال طويل ضدّ المستعمر الصهيوني، فكان لتلك الرومانسيات دورها في الإقناع بصواب ذلك الاتجاه، الذي قطع الانتفاضة الأولى، وذهب إلى صيغة تعاقديّة، لم تُفضِ بعد هذه السنوات كلّها إلا إلى تكريس الاحتلال أكثر، وتصعيب مهمّة النضال أكثر، وإفقاد تلك الرومانسيات معناها!
اليوم فقدت تلك العناصر بريقها الرومانسي، لأنّ الفلسطيني في الأصل لم يكن يقاتل لأجلها، وإنّما كانت دائماً رمزاً على ما يقاتل لأجله، وهو الحرّيّة الكاملة على فلسطين الكاملة، فكيف والحرّيّة ليست منقوصة على أرض منقوصة؟ بل منعدمة، ووضعت الفلسطيني مقابل الفلسطيني، بعدما كان دائماً مقابل العدوّ المستوطن.
أدرك رابين أن أوسلو ستخرج دولته من مأزق الانتفاضة الأولى، ولكنّها أنشأت أيضاً بنى سياسية واجتماعية واقتصادية فلسطينية على أساس تعاقديّ في إطار التفوّق الإسرائيلي المطلق وتحكّمه الكامل، وتحويل تيار مهمّ من الحركة الوطنية الفلسطينية إلى هذه البنى، ثمّ تكبيل مجاميع الفلسطينيين في كلّ مكان بها، ثمّ جعلها أساساً للتحرّك السياسي الإسرائيلي في العالم، ما يعني أن خلاص العدوّ بأوسلو كان أكبر من مجرّد خروجه من مأزق الانتفاضة الأولى!
مرّة أخرى؛ لم يعد لتلك الرومانسيات سحرها، لكن ما ينبغي الخلوص إليه بعد هذه التجربة، هو النظر دائماً إلى جوهر الأشياء، والنفاذ من سحر البريق الظاهر، إلى الحقائق الباطنة لكلّ شيء، لأنّ لعبة السحر والبريق وتزيين الكلمات لا تتوقف؛ لا في وجود الإنسان من حيث هو، ولا في صراع كهذا!
بقيت كلمة أخيرة تعليقاً على قول الرئيس الراحل: "هذا مكسب معناه أن شعبنا ثُبّت على الخريطة السياسية والجغرافية في النظام العالمي الجديد"، وهي أنّ ما ثَبَّت شعبنا على الخرائط السياسية والجغرافية في أنظمة العالم المتحوّلة كلّها، هو نضاله ومقاومته ورفضه فحسب.