حركة حماس تُعلن أن منفذ العملية الفدائية الجريئة وسط "الشيخ جراح" في القدس المحتلة هو أحد أعضائها، ابنها الشهيد المجاهد مصباح أبو صبيح، وعمره المديد مجدًا وفخارًا وعِزًّا وانتصارًا هو 39 عامًا، من سكان بلدة سلوان، وكان (رحمه الله) من أعلام مدينة القدس، ومن خيرة أبنائها الغيورين على دينهم ووطنهم.
وتشير سيرته العَطِرَة إلى أنه قبل أن يضحي بِروحه العزيزة ضحى بماله وراحته فداءً للقدس والأقصى، بوابة السماء، ومسرى الرسول الكريم، وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين.
الشهيد الجليل (أبو عز الدين) أبٌ لخمسة أبناء، وكان من المرابطين الذين أبلوا بلاءً حسنًا دفاعًا عن وطن يستحق كل التضحيات، وقد اعتقل العديد من المرات المُتتالية، وكان آخر اعتقال له مرهونًا بالإبعاد عن شرقي القدس مدة شَهْر، ومُنِعَ قَبْلًا من السفر حتى نهاية العام الجاري 2016 ميلادية، وَحُرمَ دخول المسجد الأقصى مدة 6 أشهر.
لقد جاءت هذه العملية النوعية المباركة دليلًا على أن انتفاضة القدس تتجدد وتتقد بدماء الأطهار الخالدين أبدًا، وتتمدد لِتَصلَ إلى كل ربوع الوطن المُحتل، وهي تبيان واضح لأن الاحتلال يقف عاجزًا اليوم عن إيقافها أو التنبؤ بمآلاتها أو الاستفادة من دروس تاريخ شعب فلسطين المناضل الذي يُبدع في مواجهاته الجريئة والاستشهادية، مع وطأة إجراءاته الأمنية والقمعية والدموية السافرة.
والبطل الشهيد أسد الأقصى كما كان يُلقب وُضِعَ تحت الرقابة المُشدّدة، وطالته العديد من عمليات الاستدعاء وتفتيش البيت في بيئة نشر فيها الاحتلال النازي 5 فرق عسكرية بشرقي القدس، خاصة أن دولة المستوطنين في فلسطين المحتلة تعيش في مرحلة الأعياد اليهودية بكل ما يُرافق ذلك من إجراءات واعتقالات غير مسبوقة.
ولم يكُن مصادفةً بأي حال أن يقوم المجاهد الشهيد بعمليته في الذكرى السنوية لمجزرة المسجد الأقصى، دلالة أكيدة على تماهيهِ مع هموم شعبه الفلسطيني، وقد ودَّع فلذات كبده وقَبَّلهُم بعد أن صلّى الفجر مع ابنته إيمان، وقد بسط لها سجادة الصلاة لِآخر مرة، وقد أوصاهم بتقوى الله وحماية الأقصى والرباط فيه والتضحية من أجله، وهو الذي قدم أُنموذجًا يُحتذى لِأبٍ بَسَطَ الروح رخيصةً من أجل وطن هو الأقدس والأغلى.
لقد أنار البطل مصباح مدينته بضوء أبدي لن ينطفئ ما بقيت الحياة، وسيبقى مُرشدًا على طريق سيطرقها أبناؤه وأشقاؤه وشقيقاته من الحرائر اللواتي انتقم لهُنَّ، ومن أبناء هذا الشعب العظيم، حتى تحرير الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وعاصمته القدس الموحدة إلى يوم الدين.
قوات الاحتلال وشرطته أصابها السُعار بعد صدمةِ العملية البطولية، فقامت بحملة اعتقالات واسعة طالت العشرات، من بينهم والده وابنته وشقيقه، وعدد كبير من عائلة أبو صبيح، ومن الشباب الذين احتشدوا احتفالًا بهذا الإنجاز العظيم.
وَجَلِيٌّ أن هذه العملية وقعت في الشهر الذي تحل فيه الذكرى السنوية لانطلاقة انتفاضة القدس الثالثة، شهر تشرين الأول، لِتُعْلِنَ استمرار الانتفاضة وتدشين عامها المجيد الثاني بثماني عمليات بين طعن ودهس وإطلاق نار، مؤكدة أن مَخزونها الإستراتيجي من المجاهدين لا يَنْضب، وأنها تتطور وتأخذ وتائر أعلى باستخدام البندقية الرشاشة (M16)، وهو السلاح الحديث والنوعي المعتمد في نخبة فرق جيش الاحتلال، لينتقل الاشتباك من (الكارلوستاف) والبنادق المَحلّية الصنع، كما تدرج من الحجر والمقلاع إلى السكين و(المولوتوف) والعبوة الناسفة.
وتؤكد حركة حماس مضِيِّها بثبات على طريق المواجهة مع قطعان جيش الاحتلال وسوائِب المستوطنين، مدعومة بجماهير الشعب الصامد المرابط والقوى الحيَّة للمقاومة، وهي تقطع العهد بمواصلة وتعزيز النضال حتى النصر، مُعَبِّرةً عن اعتزازها بشهيدها مصباح الذي عَمَّدَ بدمه الطاهر رسالته (الوصيّة) إلى كل المجموعات التي انضمَّ إليها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قال فيها: "أستودِعُكم الله الذي لا تضيع ودائعه، أحبتي في الله وإخواني، سامحوني، إن أخطأت أو قصرت بحقكم، اليوم بإذن الله سَأُسِلِّم نفسي وسأخرج من كل المجموعات ... أتَمَنّى عليكم أن من يَصِلَ إلى الأقصى فَلْيبلّغه شوقي وسلامي ومحبتي، ومن استطاع منكم أن يُصَلّي ويدعو الله في صلاته لي فلا يَبخل عَني، فوالله ما كنت أن أُحِب إلا أن يكون آخر عهدي قبل تسليم نفسي إلا صلاةً فيه".
ولم يعلم أحد أن رسالته تلك لم تكن إلا وصيته الأخيرة، مستخدمًا الترميز عن الجهر بنيته تسليم نفسه لله راضيًا مختارًا الشهادة من أجل مسجد أُبْعِدَ عَنه رَغْمًا، وكان قرار شرطة الاحتلال إيقاع العقوبة به، وذلك بتسليم نفسه في اليوم نفسه لإدارة سجن الرملة، بدعوى ضربه جندي احتلال في حي باب حطة بأحياء القدس القديمة.
وكان آخِر ما خَطَّهُ على صفحته في (فيس بوك) قبل أن يرتقي إلى مَعيّةِ الله شهيدًا: "الأقصى أمانة في أعناقِكم، فلا تتركوه وحيدًا".
كان الرجل الذي صَدق عَهْدَهُ مع الله ومع شعبه قد استقل سيارته، ولكن ليس إلى مَحَلِّهِ التجاري في بلدة الرام، وإنما إلى موعدٍ مع الاحتلال ليُصْليهِ بالنار فيردها إلى نحره جزاء مجازره، فمضَى يحمل سلاحه بإرادة فولاذيةٍ مُتخطيًا كل إجراءات العدو الأمنية، ونجح في الاشتباك مع شرطته وجنوده في عملية مُعقَّدةٍ بأكثر من موقع، فقتل اثنين من مستوطنيه وجنوده (وكان الجندي القتيل من وحدة (اليسام) الخاصة) وجرح ثمانية آخرين، وقد شهد قائد الشرطة بأنه كان ثابت الخطى رابط الجأش ويطلق النار بِحَرِفيّةٍ وتركيز كبيرين مُحققًا مُفاجأة صاعقة للعدو، وهو المُراقَبُ والمطلوب لهم على مدار الساعة.
لقد اختار أسد الأقصى أن يلْطُم الاحتلال في عُمق مواقعه الحصينة، وهو العليم بشعاب مدينته المحتلة، فَنَفَّذَ العمليةَ على مَبعدةِ أمتار من مقر القيادة القطرية للشرطة في منطقة (غفعات هتحموشيت) [وتعني: تلة الذخيرة]، في وقت تشهد فيه المدينة إجراءات أمنية شديدة التعقيد وغير مَسْبوقة، وكان بطل العملية في مرمى العدو ومركز ملاحقته الدائمة، وقد سجن عدة مرات، وكان آخِرها استدعاءه واعتقاله 5 مرات في الأسبوع الأخير، في الوقت الذي قَرَّرت فيهِ الأجهزة الأمنية الصهيونية منع تداول أي معلومات عن العملية مدة شهر، ما يوحي بحجم الاختراق وتعقيداته وجوانب المفاجأة والتقصير التي سادت في تلك اللحظات الفارقة.
لقد اعترف العدو بأنها العملية الأكثر تخطيطًا، التي استخدم فيها "أبو عز الدين" مناورات التخفي والتنقل، وهاجم عدة مواقع تحت النار والمطاردة، كيف تمكن من حيازة البندقية؟!، وأين كانت؟!، ومتى تَدَرَّبَ بكل هذا الإتقان؟!
حركة حماس تُعلن مسؤوليتها وَتَزُفُّ شهيدها، في تَحدٍّ مفتوح للعدو، بكل ما يَحْمِلُهُ هذا من تبعات واستعدادٍ مُنظّم لتطورات قادمة، وأيام حُبلى بِتصاعد واعدٍ لشعبٍ عَقَدَ العزم على تطهير القدس وكل الوطن من دنس الاحتلال.