بقلم/ نور أبو ركبة
أكتب هذا المقال في اليوم السابع والستين لاجتياح مخيم جباليا وإعلانه منطقة عسكرية وفرض حصار مطبق عليه من جميع المناطق وإغلاق كافة المنافذ على المواطنين القاطنين فيه
أكتب كلماتي هذه وأنا أجلس على سرير لفتاة لا أعرفها، أدركت أنها فتاة من اللون الزهري الذي يكسو غرفتها وبعض مستحضرات التجميل القابعة على تسريحتها إلى الآن، والتي تهيمن على ألوانها وماركاتها غبرة الهجر والصواريخ وركام البيوت المجاورة، غرفة جميلة أنيقة لكنها منطفئة لم تألفني بعد رغم أني فتاة أيضا، لكني ليس تلك الفتاة التي صمم كل ركن من أجلها وحسب ذوقها، يحزنني أنها تركت خلفها هذا الجمال كله ونزحت إلى جنوب قطاع غزة تحت التهديد والقتل والأحزمة النارية والإعدام والتهجير القسري، ربما تعيش هي وعائلتها الآن في خيمة تتلاعب الرياح بأوتادها، لكن الأوتاد الرقيقة لم تصمد أمام عنف الرياح الشديد فتنهال بغتة على رأس العائلة وهم نائمون أو مستيقظون ربما وهم يبكون أو وهم يضحكون على حالهم، وليس هذا فحسب، بل يمكن أن تداهمهم مجموعة من الفئران والقوارض وأنواع شتى من الحشرات منها ما تعرفه ومنها من شرفتك الحرب بمعرفته، أو أن تنبح الكلاب على بابهم في منتصف الليل فتوقظهم من حلم جميل كانوا قد استرقوه من زحمة الوقت المشحون بأخبار المجازر وأعداد الشهداء والجرحى ونفاذ الوقود والغاز والحطب وإخراج المستشفيات عن الخدمة وشح المياه والطوابير المصطفة على دورات مياه المخيم الذي أنشأته الحرب فالمخيمات لم تخلق إلا للفلسطينيين الذي يواجه كل جيل منهم نكبة جديدة أكثر دموية من التي تسبقها، فأينما ذهب تلحقه الخيمة فإذا لم تكن في واقعه فيحملها بكل أثقالها في مخيلته ويسير تائها في الدروب التي تتربص له فقط لكونه فلسطيني.
أما عن مستحضرات التجميل التي تملأ غرفتك يا فتاتي الجميلة، لا تقلقي عليها فهي تنتظرك حتى تعودين ويعود لنا الحق في الحياة، إلى ذلك الحين ستبقى هي الأخرى عاجزة عن تجميل الوجوه الكالحة والعيون الذائبة فهي وإن كانت ستغطي التصبغات التي أحدثتها النار في وجوهنا وأيدينا، فلن تغطي الإرهاق والقهر والآلام والندوب التي بدلت ملامحنا المشرقة إلى تجاعيد في الوجه والقلب والذاكرة، وعن ملابسك الأنيقة فهل ارتداؤها سيضفي رونقا على أجساد بالية أوهنها الجوع والنزوح والتهجير والأعمال الشاقة، إليكِ يا فتاتي التي لا أعرفك، سأحفظ إليكِ حياتك حتى تعودين إليها.
لقد مر عام وأكثر على نشوب هذه الحرب، عام أصبحت فيه النار جزءاً رئيسا من حياتنا كبديل عن الغاز الذي يمنع الاحتلال إدخاله إلى القطاع رغم أنه غازنا المستخرج من بحرنا، لكنه ليس المورد الوحيد الذي يسرقه الاحتلال فهو لو استطاع أن يمنع عنا الهواء لمنعه، لكنه لا ينفك عن تلويثه بصواريخه وقنابله الدخانية والحارقة والمدمرة والقاتلة وطائراته التي تسير كسرب في السماء تستعرض في كل لحظة قوتها على شعب أعزل لا يعرف من الحياة إلا الاحتلال ووحشيته، كما أن أنفاسه في بلادنا هي أكبر ملوث لهوائنا وحياتنا.
أنا نور من مخيم جباليا وهذا النزوح الذي لا أعرف رقمه، فقد توقفت عن العد في اللحظة التي فقدنا فيها قدرتنا على الفرار من الموت إلى جحيم الحياة، أتساءل، أليس الموت أفضل من هذه العبثية التي نعيش؟ إذا كان الجواب الحتمي نعم، فلماذا نهرب إذن من هذا الشبح الذي بات مقيما في غزة ويتخطف كل ما هو جميل فيها منذ أكثر من عام؟
أعود إلى نفسي وأجيبها، نحن لا نهرب من الموت كفكرة بل كأسلوب شنيع، نخاف أن نبقى تحت الأنقاض نصارع الموت ننادي ونستغيث لكن لا مجيب، نموت ألف مرة قبل أن نموت، سيناريو مكرر تعرض له معظم الأحياء والأموات في غزة، يتم قصف البيت فوق رؤوس ساكنيه، فتعلو صرخات الأحياء ثم تتضاءل رويدا رويدا حتى تصير أنّات وأنفاس أخيرة ثم تصمت وتفوح رائحة الموت في المكان، ويبقى ناجٍ مؤقت يناظر الأعضاء المتناثرة حوله، يستنشق دخان الصواريخ ومعه دماء أهله، يكون الشاهد الوحيد على المصيبة، ينصت إلى شخرتهم الأخيرة يرى شخوص أبصارهم، يعاين موتهم فردا فردا، حتى يأتي دوره فيزفر روحه وكأنه يتقيأ الحياة التي لم تحفظ له حق الموت بسلام، أتحسب أن هذا هو أكبر الأوجاع؟ كلا، بل هناك ما هو أشد وجعاً، تخيل أن تكون تحت الردم، والشظايا تمزق جسدك وتسيل الدماء من جروحك والموت لا يأتيك، اللعنة!، إنه يبقيك على قيده، وتشاهد محاولات إنقاذك لكن جميعها تبوء بالفشل، فلم يبقى لك خيار إلا أن تستسلم وتبقى طريح الركام حتى يشفق عليك الموت ويقبضك، أعلمت الآن لماذا نهرب من الموت في غزة؟!
على أية حال نزحنا إلى حي النصر غرب غزة في السادس من أكتوبر2024، أي في اليوم المتمم لعام الحرب، وبعد يوم من إعلان مخيم جباليا منطقة عسكرية للمرة الثالثة، خرجنا رغماً عن إرادتنا كالعادة تحت وابل الصواريخ وعشوائية القتل، نزحنا لأجل أرواح الأطفال، وخوفا من همجية القتل، خشية الإصابة دون تقديم أي خدمة
إسعافية، وخشية الأسر والتنكيل، أمّا عن مشهد النزوح فقد بات مألوفاً لنا، آلاف من العائلات تسير وفق للخط الذي رسمه جيش الاحتلال لهم، الوجوه شاحبة، الخطى متعثرة، الأطفال يبكون من طول المسافة، اللعنات تخرج من أفواه الرجال، النساء مثقلات الحمل، الجيوب غالبا ما تكون فارغة، وأصحاب المركبات يستغلون حاجة الناس ويرفعون الأسعار إلى أعلى سقف، والوجهة مجهولة، والتيه واضح في عيون النازحين، إنهم اعتادوا ذلك المشهد، مشهد قضاء ليلة كاملة على أرصفة الشوارع، مشهد السير تحت أشعة الشمس الحارقة، مشهد المبيت تحت زخات المطر يفترشون الأرض ويتلحفون بالسماء، مشهد النزوح تحت القذائف ونيران الصواريخ، الشظايا تحيط بهم من كل مكان، ومن النادر جدا أن ينفذوا منها جميعا.
في كل مرة تنزح تتضاءل حقيبتك، تتخلى عن كل شيء تدريجياً، لأنك ستتفاضل دائماً بين ما هو مهم وما هو مهم، فأي مهم ستختار؟ في حين أن حقك في الاختيار بات مفقودا في أول قرار تم اتخاذه نيابة عنك، كقرار إعلان الحرب مثلاً، كقرار توقيف سير حياتك ثم انعدامها حتى فناءك، لا قرار للإنسان في الحرب، يقضي الفرد أيامه هارباً متشرداً، الموت من أمامه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله، فأي وجهة ستختارها ستفقد شيئا منك ابنك، أختك، أخيك، ابن أخيك، لا محالة ستشيع أحداً من أحبائك، الفقد شيء حتمي وملازم لك طالما أن الحرب تلفظ أنفاسها ولا زالت تنادي هل مزيد؟
في كل مرة يدق النزوح بابنا، أتساءل؟ كيف يمكن أن نختزل البيت في حقيبة؟ ألسنا في زمن التطور والتقدم؟ هل يمكن لأي ذكاء اصطناعي أن يحل لنا هذه المعضلة؟ لكن عن أي ذكاء أتحدث؟ لو كان هناك اهتمام قليل من العالم المتحضر هل كانت الإبادة ستستمر لأكثر من عام؟ أتساءل والواقع يجيب، لقد كشفت الحرب زيف التحضر، فالمصالح هي من تجمعنا، وليست الإنسانية كما كانوا يدعون جزافا، فحين يرتكب الاحتلال مجازر بشعة بحق عشرات الألوف من الأطفال والنساء وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع ولا أحد يحرك ساكناً، فإن ذلك ينذر بفاجعة صادمة تثير حنقي وشفقتي على هذا العالم المتمسك بقوانين موازين القوى، الموازين الخائبة الذي يحكمها القوي ويتمسك بها الخانع الضعيف، فمن يغمض عينيه عن أشلاء طفلة قتلتها الطائرات الإسرائيلية وهي تصطف على طابور توزيع البسكويت للأطفال لأن السياسة تقتضي ذلك، فتباً للسياسة واللعنة على المصلحة، فما تغاضيت عنه اليوم سيصيبك غداً، لأن المحتل متعطش جداً للدماء ولن يكتفي بنا فبنك أهدافه كبير وقائمة القتل طويلة جداً.
ولأن المصيبة بالمصيبة تذكر، فإن مصيبة النزوح تعلمك شيئا وحيدا هو أن كل شيء قابل للترك لتنجو أخيرا بنفسك، الملابس التي عثرت عليها بصعوبة وتمكنت من شرائها وأخيراً بأسعارٍ خيالية وفرحت بها بعد أن فقدت كل ما لديك حين تم قصف بيتك ستكون عبئاً عليك في حال قررت اصطحابها وإذا طالت المسافة ستُلقي بها دون تردد كما فعل الكثير من النازحين، لقد ألقوا أمتعتهم المغبرة في الطريق الوعرة، مقتنياتهم وأطعمتهم التي حملوها وملابس أطفالهم أسقطتها أيديهم وبكتها عيونهم، لأن كل فرد ألقى حقيبة يعلم ما ينتظره، الشح والغلاء الفاحش والإذلال، والإرهاق، والقهر، لكن الطريق مهلكة والركام يجرح والأجساد خارت قوتها، النجاة للروح فقط، وإن كانت خاوية مشوهة مهمشة لكنها غريزة البقاء، البقاء رغم انعدام الحياة وتوفر الموت.
حين وصلنا إلى حي النصر بعد رحلة نزوح مريرة، توقعت أن نكون في ضيافة الحي المفعم بالحيوية، والذي يمثل واجهة الجمال في المدينة، النابض بكل معالم الحياة والرقي، لكنّ خيبة المنظر سحقت توقعاتنا، لقد دُهشنا من هول ما رأينا، وكأنّ هذا الحي تعرض لزلزال شديد العنف ابتلع الجمال وخلَف الدمار، أبراج شاهقة صارت كومة ركام، مناطق منسوفة، ومناطق محروقة، وحارات مجرفة، المركبات تحولت إلى هياكل من حديد على أبواب البيوت المدمرة، المحلات والمراكز التجارية وكل مظاهر الحياة طالها الخراب، لقد تشوهت واجهة المدينة، وأضحت منطقة خاوية من سكانها الأصليين ومتجردة من كل معالمها، ومفرغة من روحها، هذا الإجرام الفظيع أحيا تساؤلاً دائماً ما كان يطرق أبواب المنطق في عقلي لأجد له إجابة معقولة ومقنعة، وهو "كيف سينطق الشجر والحجر في أيام التحرير، كيف سيخبران المسلم عن كل يهودي يختبأ خلفهما"
كنت أتساءل، هل يمكن أن يكون هذا معجزة؟ لكن ما أعلمه أن زمن المعجزات قد انتهى